يوم السبت الماضي، نعت نقابة الفنانين السوريين المخرج السوري بسّام الملا، الذي مات صباحاً متأثراً بمرضه، عن عمر يناهز 67 سنة، مخلفاً وراءه إرثاً فنياً غنياً، جعله يحصل على لقب "عرّاب مسلسلات البيئة الشامية"، بفضل مساهماته الغزيرة والهامة في هذا النوع، ما بين "أيام شامية" و"باب الحارة".
بداية بسّام الملا كانت ممهدة نوعاً ما، كونه ينتمي لعائلة فنية معروفة، فهو ابن الممثل أدهم الملا، وأشقاؤه هم المخرجان مؤمن وبشار الملا والممثل مؤيد الملا. إلّا أنّه الفرد الوحيد من عائلته الذي نجح بترك بصمة واضحة في الدراما السورية، كما ينطبق ذلك على ولديه أدهم وشمس الملا اللذين فتح لهما أبواب الشهرة بدوره. فعلى عكس باقي فناني العائلة، كان بسّام يتمتع بالقدر الكافي من الإبداع، وامتلك مع الزمن هوية فنية واضحة لا يمكن إنكارها، حتى بعدما انهارت حصون "باب الحارة" شعبياً وهبطت أسهم عمله الأكثر شهرة.
بدأ بسّام الملا عمله الفني كمساعد مخرج في بداية الثمانينيات، في مسلسل "تجارب عائلية" تحت إشراف المخرج علاء الدين كوكش الذي بقي متمسكاً فيه بخمسة أعمال لاحقة. ومع بداية التسعينيات، صار بسّام الملا مهيأً لإخراج أول أعماله، "الخشخاش" الذي بدا فيه متأثراً بأسلوب أستاذه كوكش إلى حدّ بعيد.
في العام التالي، خرج بسّام الملا من عباءة أستاذه، عندما أخرج الجزء الأول من مسلسل الأطفال "كان يا ما كان" عام 1992. المسلسل بدا حينها كثورة في عالم الدراما السورية، بسبب التقنيات المستخدمة لمعالجة الحكايات الفانتازية المتخيلة بصرياً. وفي هذا المسلسل رسّخ الملا أقدامه في عالم الدراما، وأثبت قدرته الإبداعية على خلق فضاءات درامية تناسب المجتمع العربي المحافظ، فهو كان قادراً على إعادة إنتاج الحكايات الشعبية التي ترويها الجدات بصورة درامية تجذب الجمهور السوري بكافة أطيافه. وهذه الخصلة بالتحديد قادته نحو تجربته الثالثة، التي كانت نقطة التحول الأبرز في مسيرته ككلّ، ونقصد هنا مسلسل "أيام شامية" (1993)، الذي يعتبر أول مسلسل سوري ينتمي لنمط البيئة الشامية.
ففي هذا المسلسل أعاد الملا اكتشاف البيئة التي ينتمي إليها من خلال سرد الحكايات الفانتازية التي يتداولها الناس عنها؛ لكنّه في هذا السياق تخلى عن الخدع البصرية، على حساب خلق عالم بسيط، ليلعب البيئة الشامية في استديوهات تتمتع بجمالية بصرية، ويقدمها للجمهور بشكل سلس، يعزز شعور الجمهور بامتلاكهم للحكاية وانتمائها لذاكرتهم الشعبية.
ولم يتوقف الملا عن محاولاته في تطوير أدواته في صنع الدراما في التسعينيات التي قدم فيها العديد من التجارب المتباينة؛ أبرزها على الإطلاق مسلسل "العبابيد" (1997) الذي ينتمي لنمط الفانتازيا التاريخية. وفي "العبابيد" نجح الملا بترك أثر واضح، ليتميز العمل عن باقي مسلسلات الفانتازيا التاريخية، تمثّل هذا الأثر بالتبسيط الذي يجعل الشخصيات تبدو أكثر قرباً لنا من نظيراتها في مسلسلات نجدة أنزور، ليعطيها روحاً تجعلها أكثر صدقاً، ويختلط الأمر على شريحة واسعة من الجمهور الذين ظنوا أنّ "العبابيد" يعكس التاريخ الحقيقي.
وفي الفترة ذاتها، كان اسم بسّام الملا بدأ يسطع عربياً، ليزداد الطلب عليه في المحطات الخليجية واللبنانية، التي أخرج لها العديد من برامج المنوعات والفوازير، منها "بساط الريح"، "يا ليل يا عين"، "داوود في هوليوود" و"ابتسامات".
ومع الوصول لسنة 2000، كان بسّام الملا قد أصبح أكثر ميلاً للاستقرار فنياً، فهو اختبر العديد من الأساليب وعرف وصفة النجاح الأفضل، التي وجدها في البيئة الشامية، فأخرج المسلسلات الأبرز التي تنتمي لهذا النمط في تلك الفترة، ونقصد هنا: "الخوالي"، "ليالي الصالحية" و"باب الحارة" بأجزائه الأربعة الأولى. هذه المسلسلات حققت نجاحاً شعبياً يصعب تكراره، بسبب أسلوب بسّام الملا الإخراجي، الذي يصوّر الشخصيات دائماً من زاوية مواجهة لها، دون تكلّف واستعراض، ليجعلنا نشعر أنّ هذه الشخصيات تجلس بالقرب منا وكأنّها معنا.
إلّا أنّ نجاح "باب الحارة" بالتحديد كان سلاحاً ذا حدين، فهو ساهم برفع أسهم بسّام الملا الشعبية عربياً، لكنّه أوقفه عند نقطة معينة، لم يتمكن من تجاوزها إبداعياً، وزاد الأمر سوءاً الخلافات التي نشبت بينه وبين شركائه في الإنتاج، ليتحول المسلسل إلى مهزلة على صعيد الصناعة والأحداث بأجزائه الأخيرة؛ التي تخلى عنها الملا، ليقدم مشروعه الأخير "سوق الحرير" الذي نسف فيه كلّ وصفات النجاح التي اعتمدها في دراما البيئة الشامية، وبحث عن جماليات أخرى ليكون بدايته الجديدة، من خلال المغالاة بتصحيح الألوان التي حورت البيئة الشامية وجعلتها تظهر بصورة فاقعة محقونة بالبوتوكس. إلّا أنّ هذه التجربة الجديدة لم تكن نقطة في تحول المسار، بل سطر أخير يكتبه الملا قبل الرحيل.