(*) أنتَ مؤلّف الموسيقى الأخير لبرتران تافرنييه وآلان كورنو، الذي كان مخرجاً كبيراً أيضاً.
نعم. أنا فخور بذلك. كان آلان رجلاً نبيلاً، يعرف أيضاً كلّ أنواع الموسيقى: الـ"باروك" والكلاسيكية والموسيقى المعاصرة والموسيقى الإثنية. كنتُ مسروراً للعمل معه. يسهل دائماً العمل مع الكبار. يكون الأمر أصعب مع أولئك الذين يشكّكون، أو يغيّرون آراءهم، أو يتراجعون عمّا قالوه في اليوم السابق. اليوم، مع الخبرة، أصبحتْ لديّ حاسة سادسة، تخبرني فوراً: "لا يا عزيزي، هذا الفيلم ليس لك".
(*) هناك أفلام وثائقية مهمة جداً في حياتك المهنية: "كوسموس" (1996)، و"الشّعب المهاجر" (2001) الذي أحبّه كثيراً. هذه الأفلام تشترك في أنّها وفّرت لك مساحةً أكبر للتعبير، نظراً إلى عدم اشتمالها على تعليقٍ صوتيٍّ كثير. أشعر أنّك أفدت منها للقيام بأشياء مختلفة تماماً، كدمج أصوات الإوزّ، وتضخيم صوت حركات الحشرات.
أقدّر رأيك. إنها أفلام مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى الموسيقيّ، لأنّها لا تحتوي على تعليقات كثيرة، فتغدو الموسيقى تعليقاً. كان الاشتغال على "الشّعب المهاجر" رائعاً للغاية، لأنّي كنتُ قادراً على العمل مع أشخاصٍ مختلفين تماماً، في مجموعات بوليفونية بلغارية وكورسيكية، ونِكْ كاف، وروبرت وَيات الذي كنتُ معجباً به فترة طويلة. كان ذلك مُلهماً.
(*) وكيف اشتغلت عليه؟ هل وصلتك الصور بعد انتهاء التصوير، أم أنكَ كنتَ جزءاً من المشروع منذ البداية؟
منذ البداية. لكنّ الفيلم استغرق وقتاً طويلاً لتوليفه. عملنا عليه بلا توقّف. كان فريق التصوير يلتقط أشياء جميلة كثيرة، إلى درجة أنّي كنتُ أنتهي من الاشتغال على مشهدٍ ما، لكنّه يختفي في الطريق، لأن مشهداً التُقِط حديثاً أقوى منه. أتذكّر أنّي كنتُ أعمل عليه في فترةٍ معيّنةٍ، في منزلي في كورسيكا، فتزامن اشتغالي على الموسيقى الخاصّة بمشهد إوزّتين، تحلّقان فوق نيويورك، في يوم تعرّض البُرجين للهجوم. زارني يومئذ صديقٌ صحافيّ في "لو موند"، وقال لي، وهو ينظر إلى عنوان الموسيقى على الشاشة، "تحليقة فوق نيويورك": "هل تدرك حقاً ما سيثيره هذا العنوان بعد ما حدث؟".
كان ذلك مُدهشاً جداً. ينبغي أنْ أشاهد الفيلم مرة أخرى. لكنّي أعتقد أنهم أزالوا مشهد التحليق فوق البرجين. لا أعتقد أنّ موسيقاي اخترقت البرجين، لكنْ، هناك أشياء مُحيّرة للغاية في السينما.
(*) ما الفرق بين هذه التجربة وتجربة "ميكروكوسموس"؟
أعتقد أنّ مُخرِجَي "ميكروكوسموس" يعرفان بالضبط ما الذي كانا بصدد تصويره. إنهما عالِمان ومصوّران كبيران. في الحقيقة، كان المونتاج بسيطاً للغاية، لأنهما أعدّا مُسبقاً الدراماتورجيا الخاصّة بكلّ تسلسل.
في ما يخصّ "الشعب المهاجر"، كان فريق التصوير يعود بصُور رائعة في كل مرّة، بطلبٍ من جاك بيران طبعاً، الذي كان يرشدهم إلى نوع اللقطات التي يرغب فيها. لكنّ المادّة المُصوّرة كانت هائلةً للغاية، وبالتالي استمرّ المونتاج فترة أطول. كانت الرغبة وراء "ميكروكوسموس" أنْ ينغمس المتفرّج بفضل الموسيقى في عالم فانتازي شيئاً ما، بعيداً عن الأفلام الوثائقية العلمية. ننحني قليلاً فنكتشف عالماً سحرياً لم نكن نعرف عنه أيّ شيء. في "الشعب المهاجر"، هناك عالمٌ لا نعرف عنه الكثير أيضاً، لكنّه يطلّ على العالم بأسره.
(*) كيف استقبلت نجاح موسيقى "ميكروكوسموس"، بعد الصّيت الكبير الذي حقّقه الفيلم؟
كان الأمر غريباً جداً. كنّا في "كانّ"، ولم يكن أحدٌ يتوقّع نجاحاً من هذا الحجم للفيلم. تمّ انتقاؤه رسمياً، لكنْ خارج المسابقة. لم يكن هناك حضور كبير في المؤتمر الصحفي. بعد ذلك، تمّ العرض في حضور كوبولا، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية. عند نهاية العرض، تلقى الفيلم ترحيباً حاراً جداً. هذا يعني أنّنا انتقلنا، في 75 دقيقة، من فيلمٍ مجهول إلى نجوم الدورة.
(*) هذا سحر مهرجان "كانّ".
بالضبط. كوبولا صرّح: "هذا نوع الأفلام التي ينبغي أن تنال السّعفة". كان الأمر أشبه بقصّة خرافية. لكنْ، عليك دائماً أنْ تحذر من النجاحات، لأنها تجعلك تعتقد أنّك تعرف كيف تفعل الأشياء، بينما السينما، مثل الموسيقى، عودةٌ أبديةٌ إلى البداية.
(*) هذا يُحيلنا إلى أهمية المجازفة في عملك، وهذا ضروري للمخرجين أيضاً، وفي الفنّ عامة.
نعم. أفضّل أنْ أفشل وأصطدم بالحائط، لكنْ أنْ أتوفّر على قدرٍ، ولو قليلا، من المجازفة، أو رهانٍ ما. نبالغ أحياناً في التجريب، ونكتشف أنّنا مخطئون. لكنْ لا يوجد أسوأ من الأشياء التي لا طعم لها، أو ليست متفرّدةً البتّة. صدّقني. أحياناً، نكتشف أنّ الموسيقى غريبة، ولا تشتغل جيّداً، لكنّنا على الأقل اتّخذنا تحيّزاً نعتقد أنّه ينتمي فقط إلى الفيلم الذي نعمل عليه. كلّ هذا ذاتيّ للغاية. لكنّي أحبّ حقّاً اكتشاف أشياء جديدة في كلّ مرّة.
(*) يظهر ذلك في اختياراتك، لأنّ العمل على فيلمٍ كوميدي محفوف بالمجازفة، كـ"بريس من نيس" (2005)، ليس في متناول الجميع، وأتى ثماره.
أعرف مخرج الفيلم، جيمس هوث، جيداً. إنّه صديق مُقرّب لي. لم يتوقّع أحدٌ نجاحاً كبيراً لهذا الفيلم أيضاً. حتّى أنّي لم أكنْ أعرف جان دوجاردان، الذي التقيته أول مرّة بمناسبة التصوير. كان ممتعاً العمل عليه. إنّه فيلم فريد من نوعه، ينطوي على طريقة مختلفة لصنع الكوميديا.
(*) أعدتُ الاستماع إلى موسيقى "بريس من نيس" للتحضير لهذا اللقاء. هناك البيانو، آلتك الموسيقية المفضّلة، لكنْ أيضاً هناك نوتات موسيقى جريئة جداً على الغيتار الكهربائي.
نعم. استمتعنا كثيراً لأنّنا أنجزنا كلّ الأغاني الواردة في الفيلم تقريباً، واستغرق الأمر وقتاً طويلاً لتسجيلها.
(*) مزجٌ من هذا القبيل أتقترحه أنتَ، أم يكون محصّلة توافقٍ مع المخرج؟
ينبغي عليك أنْ تناقش الأمر مع المخرج عادةً. الإشكالية بخصوص الكوميديا أنّي أكره الموسيقى النمطية، التي يُفترض بها أنْ تجعلك تضحك، فأجد أنّ الأغاني وسيلة جيّدة لأخذ مسافة من الكوميديا. يجب أن تؤخذ موسيقى الفيلم الكوميدي على محمل الجد، وإلا سيصبح الأمر فظيعاً، بنظري، إذا سعيتَ إلى التّسطير على لحظات الكوميديا. هذا بالضبط ما كنتُ أكرهه في السينما عندما كنت طفلاً.
(*) في ما يخصّ نوع الإثارة والفيلم البوليسي أيضاً، نشعر أنّ موسيقاك تتبنّى النقيض، لأنّها تخفّف إلى حدٍّ ما الجانب الخانق فيها.
تماماً. لأنّي أعتقد أنّه بوسعنا خلق القلق انطلاقاً من أشياء رقيقة جدّاً أحياناً. أشياء هشّةً للغاية. عليك فقط أنْ تؤثّر في مشاعر المُشاهد، كما فعل برنارد هيرمان في مشاهد التعقّب، في "فرتيغو" (ألفريد هيتشكوك، 1958 ـ المحرّر). الموسيقى ليست موسيقى مطاردة إطلاقاً. إنّها موسيقى مساورة، لكنّها تحرّك مشاعرنا، وتجعلنا أكثر رقّة، وتخلق لدينا القلق في آنٍ. لا داعي فعلاً لإخراج كلّ المدفعية الثقيلة. هذا ليس مثيراً للاهتمام برأيي.
(*) هذا شيء يمكنك لمسه في الموسيقى التي ألّفتها لـ"في وداع الملكة" (2012) لبونوا جاكو، المفعمة بالرقّة، لكنّها في الوقت نفسه تُحدث لدينا انطباعاً بأنّ شيئاً مأساوياً يتنامى في الخلفية.
هذا صحيح. كما لو أنّ الفئران بدأت تغادر السفينة. أروقة فرساي، كما صُوّرت في الفيلم، تثير القلق أصلاً. كان ضرورياً تعزيزُ ذلك بالموسيقى.
(*) هل تعتقد أنّ هناك علاقة بين النوع الفيلمي واختيار آلة معينة؟
أعتقدُ أنّ ذلك يتعلّق بالحدس. لكنّ اختيار الآلات مهمّة جداً. أولاً، لأنّي أقوم بالتوزيع الأوركستري بنفسي، لذا عليّ أنْ أكون حريصاً جداً في اختيار الآلات. مثلاً، أحبّ كثيراً "كورالين" (2009) لهنري سيليك. في المشهد المهمّ، مع تحوّل الأمّ الأخرى إلى نوعٍ من العنكبوت، هناك موسيقى عنيفة للغاية. لكنْ، هناك أوبوا شديد الرقّة، يعزف في خلفية المشهد، بينما الموسيقى الرئيسية نوعٌ من الفوضى المستمرّة، فقط لكي يمنحنا التعاطف نفسه مع الوحش.
أعتقدُ أنّ صانعي الأفلام العظماء هم أولئك الذين يحبّون الوحوش، ويغفرون لها، نوعاً ما. اختيار أوبوا من هذا النوع، يعزف موسيقى رثائية، يُمكن أنْ يستحضر هذا الشعور. الناس يحسّون به من دون أنْ يدركه أحد، لأنّه غير ملحوظ في المقام الأوّل. يخلق لدينا هذا شعوراً يجعل الوحش يحتفظ بوحشيته، ويضفي عليه في الآن نفسه هشاشة جذّابةً، إلى حدّ ما، عليك أنْ تحاول ترجمتها موسيقياً.
(*) الأغنية جزء مهمٌّ من اشتغالك، خاصة عندما نفكّر في تأثير عملك في موسيقى "الجوقة" (2004) مثلاً. ما خصوصية اشتغالك على الأغنية، مقارنة بالعمل الذي تقوم به على الموسيقى، عامة؟
كنتُ أمرّ في فترة مضطربةٍ من حياتي، فعملتُ على "الجوقة" في اللّحظة الأخيرة، حقّاً. أعتقدُ أنّها أسرع موسيقى ألّفتها في حياتي، وحقّقت النجاح الأكبر. لم أحبّ يوماً كورال الأطفال، لأنّه يذكّرني بأجواء دور الرعاية الكنسية. لكنّ الفيلم مؤثّرٌ. أعددنا هذه الأغاني في اللّحظة الأخيرة، لأنّ على الممثلين أنْ يُردّدوها في التصوير، لكنّنا لم نتوقّع إطلاقاً نجاحاً كهذا. أعتقدُ أنّه يرجع إلى الأحاسيس المنبعثة من الفيلم، كما أنّ الموسيقى اشتغلت جيّداً.
أحياناً، نفخر كثيراً بموسيقى ما، لكنْ لا أحد يهتمّ بها أبداً. على عكس ذلك، هذه موسيقى سهلة للغاية، لكنّها أثّرت كثيراً في الناس. صنعوا منها مؤخّراً كوميديا موسيقية، ذهبتُ لمشاهدتها بدافع الفضول. حتّى الأطفال، الذين لم يكونوا مولودين عند خروج الفيلم، بدوا متأثّرين بالأغاني. هناك شيءٌ غامضٌ، لا يمكنني تحليله، وراء شعبية هذه الموسيقى.