حتى اليوم، يبقى التعاون الأميركي الروسي صامداً في محطة الفضاء الدولية، بينما أوقفت وكالة الفضاء الأوروبية مشروعها الأبرز مع روسيا؛ "إكسومارس". والأخير، مشروع علمي مخصص لدراسة بيئة المريخ. قبل ذلك، كانت روسيا قد قررت سحب كل طواقمها الفنية من محطة إطلاق الصواريخ في غويانا الفرنسية، ردّاً على العقوبات المفروضة عليها.
وسط التصعيدات، نشط رئيس وكالة الفضاء الروسية (روسكوزموس)، ديمتري روغوزين؛ وراح يسخر من إمكانات وكالة الفضاء الأوروبية في إدارة مشاريعها، من دون مساعدة روسيا. وردًّا على تصريحات الإدارة الأميركية ضد بلاده، ألمح روغوزين، في تغريداته عبر تويتر، إلى ترك محطة الفضاء الدولية تسقط فوق رؤوس الأميركيين. من جهتها، تلتزم إدارة وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) الهدوء وضبط النفس تجاه تصريحات رئيس الوكالة الروسية. لكن، إلى أي حد يعتمد الغرب على روسيا في مشاريع الفضاء، وما هي بدائله؟
تعتمد وكالة الفضاء الأميركية بشكل أساسي على صواريخ "سويوز" الروسية في نقل روادها إلى محطة الفضاء الدولية، خصوصاً بعد أن أغلقت الولايات المتحدة برنامج مكوك الفضاء Space Shuttle في عام 2011، لأسباب تتعلق بالتكلفة والسلامة.
وكان رائد الفضاء الأميركي الذي تردد اسمه كثيراً في الإعلام الأسبوع الماضي، مارك تي فاندي هاي، من بين آخر رواد الفضاء الأميركيين الذين سافروا على متن "سويوز" إلى المحطة الدولية، قبل الحرب على أوكرانيا. ومع قطع العلاقات بين بلاده وروسيا، وقَعت عائلة فاندي هاي، ضحية زوبعة إعلامية تُنذر بنية زملاء فاندي هاي، الروس، العودة إلى الأرض وتركه في الفضاء. مصدر الشائعات كان مقطع فيديو ساخر، أعدته إحدى وسائل الإعلام الروسية، ونشره مدير روسكوزموس، ديمتري روغوزين، على تيليغرام. أعد الفيديو باستعمال مقاطع أرشيفية لرائد الفضاء الأميركي في محطة الفضاء، وتم تقطيعه، ليبدو وكأن زملاءه الروس يلوّحون له على ألحان أغنية روسية عنوانها "مع السلامة"، ثم يرحلون من دونه.
يبقى التهديد الحقيقي حول مصير محطة الفضاء الدولية، وطريقة إسقاطها
وسائل الإعلام الأميركية أخذت الفيديو على محمل الجد، وبدأ رائد الفضاء السابق في ناسا، سكوت كيلي، شجاراً إلكترونياً مع روغوزين، وصل إلى حد الشتائم والإهانات الشخصية. ما دفع ناسا إلى التوجه إلى كيلي برسالة عبر البريد الإلكتروني، تطلب فيها التوقف عن مهاجمة الروس. الرسالة صيغت بحذر للتأكيد على حرية التعبير، وأرسلت من دون توقيع، على حسب ما نقلته شبكة "سي أن أن"، ونصها: "كأميركيين، يتمتع كل منّا بحرية التعبير، ولكم جميعًا الحق في قول كلمتكم. لكن نرجو الأخذ بعين الاعتبار أن صفتكم كرواد فضاء سابقين في ناسا تعطي كلمتكم وزنًا إضافيًا، وأن مهاجمة شركائنا الروس من شأنه أن يضر بمهمتنا الحالية".
الروس نفوا صحة الادعاءات بشأن رحلة فاندي هاي، وأشاروا إلى أن الفيديو كان مجرد "مزحة". وقال جويل مونتالبان، مدير برنامج محطة الفضاء الدولية التابع لناسا، إن رائد الفضاء الأميركي سيعود على متن المركبة الروسية كما كان مقرّرًا له نهاية الشهر الجاري.
لكن يبقى التهديد الحقيقي حول مصير محطة الفضاء الدولية، وطريقة إسقاطها بعد "انتهاء صلاحيتها"، خصوصًا بعد تصريحات لروغوزين، حذر فيها الأميركيين من عواقب وقف التعاون في محطة الفضاء الدولية، وقال في تغريدة: "إذا أوقفتم التعاون معنا، فمن الذي سينقذ محطة الفضاء الدولية من الخروج عن مدارها والسقوط في الولايات المتحدة أو أوروبا؟. هناك أيضًا احتمال إسقاط هيكل المحطة الذي يزن 500 طن في الهند أو الصين. هل تريدون تهديدهم بمثل هذا الاحتمال؟ محطة الفضاء الدولية لا تحلق فوق روسيا، لذا فإن جميع المخاطر تقع على عاتقكم. هل أنتم مستعدون لها؟". بدا أن تغريدات روغوزين هذه جاءت ردّاً على تصريحات للرئيس الأميركي جو بايدن قال فيها إن "برامج الفضاء الروسية ستتراجع في ظل العقوبات".
الجانب الروسي مسؤول عن الحفاظ على ثبات ارتفاع محطة الفضاء الدولية إلى نحو 400 كيلومتر عن الأرض، بواسطة محركات مركبات الشحن الروسية "بروغرس" (Progress MS). هذه العملية تساعد أيضًا في تحريك المحطة عند اللزوم لمنع ارتطامها بنفايات الفضاء التي خلفها الإنسان، مثل حطام المركبات المعطلة، أو الأجزاء من مركبات الإطلاق التي يفصلها الرواد عن مركباتها أو غيرها من الشظايا. في حال توقف الروس عن أداء هذه المهام، لن يكون من الصعب على الأميركيين تعويض الدور الروسي، خصوصًا مع توفر خدمات شركات الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، النشيط هو الآخر في التغريد عبر تويتر والرد على رسائل لـ "فرد العضلات".
يمكن لأي مركبة تزور المحطة وتحمل كمية كافية من الوقود التعويض عن دور "بروغرس" الروسية. كما أن شركة "سبيس إكس" لإيلون ماسك، توفر منذ عام 2020 بديلاً عن "سويوز" في نقل رواد الفضاء إلى المحطة. وتقدر تكلفة المقعد الواحد في كبسولة "دراغون" لـ "سبيس إكس" بنحو 55 مليون دولار، وهذا أقل مما تدفعه ناسا للروس مقابل كل مقعد لنقل روادها إلى المحطة على متن "سويوز"، والذي يقدر بما يزيد عن 80 مليون دولار.
لا تزال "سبيس إكس" تنقل رواد ناسا إلى المحطة الدولية، لكن الأميركيين لم يتخلوا بشكل كامل عن الرحلات على متن المركبات الروسية. وعلى الرغم من الحوادث، وفشل عدد من الرحلات، لا تزال عائلة صواريخ "سويوز" ومركباتها الأكثر استخدامًا وأمانًا في العالم.
من جهتها، استفادت وكالة الفضاء الأوروبية على مدار عقد كامل من صواريخ "سويوز" في نقل الأقمار الصناعية الأوروبية من محطة الإطلاق في غويانا الفرنسية، إلى أن وصل هذا التعاون إلى نهايته بسبب الحرب على أوكرانيا. ومع أن تعليق مهمات ومشاريع الفضاء سيدوم لأجل غير معروف، لن تتخلى دول غرب أوروبا عن مشاريعها التي استثمرت فيها مليارات الدولارات، وهي تعمل على تطوير برنامج صواريخ آريان، وصناعة جيل جديد من هذه الصواريخ يكون أقل كلفة لنقل أقمارها الصناعية.
فيما استفادت الولايات المتحدة من خدمات الفضاء الروسية لسنوات؛ انتهجت ناسا سياسة جديدة تشجع على تطوير قطاع الفضاء الأميركي عبر الشركات الخاصة، وتطوير برامج جديدة، أبرزها صواريخ "نظام الإقلاع الفضائي" (SLS) الذي يحل مكان (Space Shuttle)، وتطور فيه الوكالة الأميركية مركبات لنقل روادها إلى القمر والسفر لمسافات أبعد في الفضاء.
قد تخسر كل الأطراف من وقف التعاون بينها في برامج الفضاء، لكن الزيادة في الاستقطاب، والبحث عن بدائل، سيدفع إلى مزيد من التنافس الذي يغذيه انعدام الثقة المستمر.