3 أعوام تفصل بين فيلمين قصيرين لداليا نمليش: "حاجز" (2020) و"بتتذكّري" (2023). فَصلٌ آخر حاصلٌ بينهما، يتمثّل باختلافٍ في الحكاية والشخصيات والمناخ الفرديّ ـ الانفعاليّ، وفي معاينة حالةٍ وذاكرة، في لحظة اختلالٍ، أو في مواجهة تحدٍّ. الاختلاف حيويّ، أي أنّ التنويع في الحكاية وكيفية سردها، والشخصيات وآلية تقديمها، والمناخ متنوّع المستويات ومناحي سرده بصرياً، هذا التنويع تمرينٌ على نبشٍ أعمق وأهدأ في أنماطٍ، ستكون مرآةَ شغفٍ سينمائيّ في سعي إلى تمتين فعل روايته بالصُور أولاً، عبر مشاريع ومحاولات.
ينبثق "حاجز" ("العربي الجديد"، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2020) من لحظة جماعية لبنانية، منعكسة في اللاحق على "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019). لن يكون الفيلم القصير هذا تحليلاً سينمائياً في الاجتماع والنَفس الفردية والحالة الجماعية، لاختياره أفراداً قليلين نواة أساسية لسرد انفعالاتٍ وعلاقاتٍ وتداعيات مرتبطة باجتماع لبناني عام، وبحياة وتربية وثقافة وتفكير وعيش. وبكشفه شيئاً من نبض بلدٍ واجتماعٍ وسلوكٍ، يتحرّر من كليشيهات وطنية ضيّقة، ويُبيّن وقائع ومسارات ولغة وأقوالاً وأنماطَ حياة، بتكثيف دراميّ، وجمالية مُبسّطة.
هذان التكثيف والجمالية يجهدان في أنْ يكونا لُبّ "بتتذكّري". عجوزٌ في انفصالٍ عن محيطٍ حوله، في منزله تحديداً، كما في الخارج، وذكريات تتدفّق بهدوء، واستعادة تبغي نوعاً من اغتسالٍ قبل لحظةٍ مقبلة، "ربما" تكون أخيرة. إلى جانبه امرأة تُدرك، بصمتٍ ظاهر وغليان دفين، أنّ لحظةً كهذه "ربما" تأتي، فترافق العجوز في رحلته إلى ماضيهما، بحثاً عن تصفيات، أو مجرّد رغبة في الاستعادة، لا أكثر. والاستعادة تُساق في إيقاع هادئ، رغم غليان روحٍ، وتعب جسد، وثقلٍ قليل في نظرات ترنو إلى ماضٍ ممتع ومليء بحبّ وشغفٍ وذكريات، إلى شيءٍ من ألمٍ ووفرة تساؤلات تُختَزل برغبةٍ أخرى في معرفة دافع إلى انفضاضٍ عن فعلٍ أو شعور.
التساؤل حاضرٌ، بشكلٍ ما، في "حاجز"، لكنْ مع شبابٍ يواجهون مأزقاً جماعياً في بلدٍ، ومع أفرادٍ قلائل يكونون واجهة نصٍّ بصريّ يعاين أحوالهم ـ أحوالهنّ، بكلّ ما في تلك الأحوال من تساؤلات عن الجسد والحبّ والعلاقة والانفعال والنظرة إلى المُقبل من الأيام، ولا بأس بشيءٍ من عودة إلى ماضٍ، من دون أنْ تُشبه تلك العودة عودة عجوزٍ يبحث في ماضيه عن لحظة "أمان" و"صفاء" و"راحة"، قبل أنْ "يرتكب" فعلته الأخيرة.
إلياس العجوز (زافن باكليني) يُدرك أنّ هناك خطوة عليه أنْ يخطوها، فجلوسه طويلاً في كرسيّ (أشبه بكرسيّ اعتراف، بينه وبين ذاته على الأقلّ، وإنْ بصمتٍ)، لا بُدّ أنْ ينتهي، مع كاميرا (تصوير كريم العلي) تلتصق بوجهه، إلى حدّ إظهاره كأنه في إطار صورة فوتوغرافية، لكنّه غير صامت فيها وغير جامد، بل مُنفعل ومُرتبك وساه بصمتٍ، كمن يرى "كلّ شيءٍ" دفعة واحدة، فيستريح (هل سيستريح فعلاً؟ وكيف؟). أمّا إلياس الشاب (إتيان أسال)، فحيوي ورومانسي وحاضنٌ، وكريستيان الشابّة (تمارا خوري) تُرافق حيويته ورومانسيّته، وتغرق في حضنه، وتعيش معه (كما يبدو) عمراً بهيّاً، رغم تساؤلات معلّقة، وأمكنة تنبثق من فضاء مفتوح على تلك التساؤلات المعلّقة.
بجلوسه في كرسيّه، يكتشف إلياس ما يريد (ربما) اكتشافه في تلك اللحظات، وكريستيان العجوز (سهام حداد) تبقى في هذه "المسافة صفر"، إلى جانبه. أمْ أنّ للحكاية مساراً يتكشّف في مسام نصٍّ سينمائيّ، لن يتساوى اشتغاله الفني الدرامي الجمالي بذاك المعتَمَد في "حاجز"؟ هذا عادي، فالاختلاف والتنويع تمرينان على ابتكارات أخرى، ومنها أسلوب الاشتغال.
إيقاع "بتتذكّري" (العنوان باللغة الإنكليزية أعمق وأجمل، وأكثر غموضاً وتحريضاً على تفكيرٍ ومتابعة وتنبّه إلى تفاصيل وزوايا، ونقله إلى اللغة العربية بدقّة ما فيه من معانٍ وإحالات صعبٌ: Somewhere In Between) هادئ، والغليان حاصلٌ في خفاء روح ومناخ وذكريات، وفي كلامٍ سيكون قليلاً ومليئاً بنُتفٍ تحاول العثور على إجابات، أو تكتفي بسردٍ. غليان "حاجز" مختلف، فهناك شباب و"انتفاضة" ووقائع يُراد لها أن تتحجّر لمزيدٍ من تسلّط، بينما شباب الانتفاضة يريدون تغييراً لها، كما لـ"كلّ شيء".
"بتتذكّري" محاولة جديدة لداليا نمليش (كتابة وإخراجاً)، تجهد في تكثيفٍ، سيكون مرتبكاً قليلاً، وفي جمالية ستُساق إلى مجال آخر في الذات والروح والعلاقة: معنى كل هذه الحياة وتفاصيلها، ربما.