"بقصصنا، نحارب المَحو. هذه الصُوَر تُقدّم نفسها دليلاً على وجود يتمّ نكرانه". "القصص التي ترويها هؤلاء النساء، في هذا الفيلم، لن تنتقل فقط من امرأة إلى أخرى، أو من ابنةٍ إلى أمّ، أو من أمّ إلى ابنة. إنها تنقل قصّة أشخاص محرومين من هويّتهم". كلامٌ للينا سويلم (مخرجة جزائرية فرنسية)، تقوله ("لو فيغارو" و"وكالة فرانس برس"، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، في تقديمها "باي باي طبريا" (2023)، ثاني وثائقيّ طويل لها بعد "جزائرهم" (2020). القصص ـ الصُور موجودة، فمن يُدركها واقعياً حيٌّ إلى الآن، والذكريات طاغيةٌ، والحنين إلى ماضٍ، ذاتي أولاً، سببٌ لتحويل الموجود (صُور فوتوغرافية، تسجيلات سمعية بصرية، مرويّات شفهية) إلى شريطٍ، يُراد له أنْ يكون وثائقياً سينمائياً، من دون بلوغه تلك المرتبة التي يمتلكها "جزائرهم".
كَمٌّ من الأرشيف البصري محفوظٌ في أمكنةٍ، تتيح للينا سويلم الحصول عليها. برفقة والدتها هيام عباس (ممثلة ومخرجة فلسطينية فرنسية)، تتجوّل الشابّة بين صُور وتسجيلات وواقع، وتلتقي أقارب لها من جهة والدتها، وتزور جغرافيا تعكس شيئاً من تداخل بين اجتماع وعلاقات وأرضٍ وحدود وتاريخ، وتستعيد حكاياتٍ عائلية، وتحاول إعادة تمثيل يومياتٍ، تساهم في تشكيل وعي نسائيّ (الشخصيات كلّها نساء) في أزمنةِ تحوّل، في الجغرافيا والسياسة والمجتمع والعلاقات.
الجولة، إذ تبدو منحازة، منذ البداية، إلى توثيق بعض الموثّق، على الأقلّ، عبر كاميرا سينمائية، تُصبح نزهةً غير مضبوطة بصرياً، كأنّ الأرشيف حائلٌ دون صُنع نصٍّ وثائقي بالصُور والكلام المتساويين في سرد الحكاية، العائلية أولاً، والفردية ضمن العائلة ثانياً. فـ"باي باي طبريا" يُراد له أن يكون امتداداً، سينمائياً وحياتياً وعائلياً، لـ"جزائرهم"، من دون أن يوظّف السينمائيّ في جعل الأرشيف الشخصيّ مادة حيوية لصُنع فيلمٍ وثائقي. إحدى ميزات "جزائرهم" كامنةٌ في أنّ المُصوَّر "حديثاً" (في فترة إنجاز الفيلم) مع جَدّي لينا سويلم من جهة والدها، زين الدين سويلم (ممثل جزائري فرنسي)، أعمق، بصرياً وإنسانياً واجتماعياً وحياتياً (الذاكرة والراهن، تحديداً)، من أرشيفٍ يُستفاد منه إن تكن هناك نظرة سينمائية تُتقن فنّ تحويل الصُور والتسجيلات إلى نصٍّ بصري متماسك، بُنيةً وانعكاساتٍ وسرداً يُقلِّل الكلام قدر المستطاع لحساب الصُور، القديمة والآنيّة.
تصعب مقارنة المخزون البصري، متنوّع الأشكال والمواضيع، الذي تحصل عليه لينا سويلم، بالأرشيف الضخم المفتوح حالياً أمام مهتمّين ومهتمّات بالذاكرة، الفردية والجماعية، في العالم. المقارنة تلك تُذكِّر بإنجازات رائعة للأوكراني سيرغي لوزنيتسا والبريطاني الهندي أسيف كاباديا مثلاً: كمّ هائلٌ من صُور وتسجيلات قديمة، تُصبح ـ بفضل فنّ المونتاج وبراعة التوليف وجمالية الحسّ السينمائي ـ أفلاماً تسرد حكايات عبر ذاك المخزون المُغرْبَل بدقّة وعمق ووعي معرفي وجمالي وثقافي لأهمية كلّ صورة، وكلّ تسجيل.
الخطوات الأولى، المتواضعة للغاية، للينا سويلم، غير محرِّضة على مقارنةٍ كتلك، لكنّها غير مانعةٍ تفكيراً بفنٍّ يُحوِّل الجامد (صُور فوتوغرافية) والمتحرّك (تسجيلات سمعية بصرية) إلى أفلامٍ "ناطقةٍ" بصمتٍ ومن دون كلامٍ، غالباً. مع سويلم، يُحصَر الأرشيف الثريّ للعائلة، ولبعض حكاياتِ أفرادٍ منها، بتفسيراتٍ آنية، مرفقة بضحكٍ مشوبٍ بحسرة وألم وقهر، وهذه الأخيرة منسحبةٌ على الذاتيّ البحت، كما على العام، في الحكاية الفلسطينية.
هيام عبّاس ابنة عائلة يُفرض عليها خروج من بلدتها الأصلية، طبريا، فتُقيم في دير حنّا (الجليل). أشرطة فيديو عائلية (بداية تسعينيات القرن الـ20) تحتفظ بوقائع زياراتٍ إلى بحيرة طبريا، في طفولة لينا أساساً. نساء العائلة، اللواتي يظهرن أمام كاميرا توما بْرومون وفْريدا مرزوق، وسويلم نفسها، تلتقط ما يُقال، وتحاول كشف المخبّأ في ذاتٍ وروح وانفعالٍ، وترافق بعضهنّ في أمكنةٍ لها، وفي ماضي كلّ واحدة منهنّ، تاريخ وعيش وحكايات.
لكنّ هذا كلّه يظهر عادياً، وبعض اللقطات مُكرَّر (خاصة عندما تُشير هيام عباس، أمام بحيرة طبريا، إلى الحدود الجغرافية الفاصلة بين لبنان وسورية وفلسطين المحتلّة). لكنّ المُلتَقط حديثاً (في تصوير الشخصيات) غير مُترجَمٍ إلى متتاليات بصرية متماسكة في إعلانها سِيَر نساء، بعضهنّ منفصلٌ عن البعض الآخر لأسبابٍ ذاتية (رغبة عباس في التمثيل تدفعها إلى هجرةٍ إلى فرنسا) أو عامّة (شقيقة لها تجد نفسها في سورية بعد احتلالٍ، وهناك من يبقى في البلدة).
إنْ يكن "جزائرهم" تفكيكاً سينمائياً لعلاقة مديدة بين جدّي لينا سويلم، قبل انفصال أحدهما عن الآخر، في شيخوخة مُرْهِقة في غربةٍ مُتعِبة، والأب (والد لينا) يظهر قليلاً كأنّ انفصاله عن والدتها تغييبٌ شبه كامل له؛ فإنّ "باي باي طبريا" ـ المعروض في برنامج "نافذة على فلسطين"، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ غير معنيّ بالأب نفسه، والعلاقات العاطفية لهيام عبّاس، التي ترويها بمزيج نَفَسٍ طفولي ـ مُراهِق بضحكات عفوية آنيّة، جزءٌ من سردٍ تبسيطيّ عام لحكايات ماضية. فالضحك غالبٌ، والبكائيات نادرة، والتجوّل في مدنٍ فلسطينية قليلٌ، والذكريات تتدفّق، لكنّ التقاطها السينمائي غير مُحوِّل إياها إلى متتاليات وثائقية تبتعد عن التسجيل العائلي، لصُنع مشهديةٍ راغبةٍ في تأكيد حضور فلسطيني لعائلةٍ، في الجغرافيا والذاكرة والراهن.