"بانكسي أكثر المطلوبين": القناع باقٍ

23 ديسمبر 2020
غرافيتي لبانكسي في الضفّة الغربيّة (ماركو دي لورو/ Getty)
+ الخط -

 

يُدرك المخرجون أوريليا روفييه وشيموس هايلي ولوران ريشار أنْ لا فائدة من التوقّف عند سؤال حول جدوى التفكير في إنجاز أفلامٍ وثائقية جديدة عن فنان الغرافيتي الشهير بانكسي، طالما أنّ هناك من تناوله قبلهم في أفلامٍ كثيرة. لا فائدة من طرح السؤال، ما دام الفنان ناشطاً في دائرة الإبداع، وما دامت أحجية هويته الحقيقية لم تُحَلّ بعد. لذا، تستمر السينما في التوجّه إليه، وتهتمّ به كثيراً، وبغموض شخصيته، ما يُجبِر صنّاعها على البحث عن أنساقِ جديدة للتناول، أو أخرى تتوافق مع لعبة التخفّي التي يُجيدها.

هذه بعض ردود ضمنية على السؤال، مطروحةٌ بعد عرض "بانكسي أكثر المطلوبين" (2020)، في الدورة الـ4 (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، مّتخذاً لنفسه أسلوب سرد يُعرف بـ"الوثائقي الصحافي". ضبابية تسمية النوع تتيح للسينمائيّ اللّعب في ساحتين: التوثيق السينمائي، والصحافة. "الإثارة" و"الاستقصاء" دخلتا إلى حقل الصحافة، عبر بوابة السبق في كشف الهوية الحقيقية للفنان، ومحاولة نزع اللثام عن وجهٍ تشوّق صحافيون كثيرون للتعرّف إليه. التحليل والبحث في المعنى الكامن خلف "المُقنّع" يشغل المساحة الأكبر من مربّع التوثيق، ومع الوقت، يكتشف المُشاهِد أنّ هذا الجزء "لعبة بازل" سينمائية، تتّخذ من الصحافة قناعاً، وتمضي في تركيب الأجزاء الكرتونية المتفرّقة لتُكمِل بها لوحة سينمائية عن فنان يُكسّر تابوات سياسية واجتماعية، ويُعرّي أنظمة مُستبِدّة، وينحاز برسوماته إلى أولئك المُستلَبَة حقوقهم في كلّ مكان.

في مشهد الإعلان (تسجيل فيديو)، عن بيع لوحته الشهيرة "صبية مع البالون"، في مزاد صالون "سوذبي" اللندني، تتكثّف المعاني المشتركة بين المساحتين السينمائية والصحافية. المفاجأة تحدث مع رؤية الحضور ـ جُلّهم من أثرياء المجتمع المخملي ـ للّوحة المنسحبة خارج إطارها، (كانسحاب ورقة من جهاز الـ"فاكس")، بعد توقّف سعر بيعها عند نحو مليون دولار أميركي، وما يتبعها من ردود فعل، يجري البناء عليها درامياً.

بهذا، يوزّع المخرجون الحصص على الطرفين: لمعارضيه ـ الذين يرون في حركته استهزاءً بالفنّ، واستغلالاً لحرية غربيّة متاحة، تمنحه شهرة يسعى متعمَّداً إليها ـ حيّز جيد للتعبير عن تذمّرهم من سلوكه "الوضيع"، ولآخرين يرون في "سلوك" لوحته تثويراً للفن، وتحدّياً لشكلانية بورجوازية تحوّله إلى "بضاعة" وحُلي يُزيّن بها الأغنياء جدران قصورهم.

يمضي الوثائقيّ في مساريه، ويُداخل بينهما. يُحضِر شخصيات ترفع الفنان إلى مصاف "المُقدّس"، وأخرى تتعامل معه كـ"موضوع" استقصائيّ، يجري العمل على كشف هويته من خلالها. يقود المساران، المتداخل أحدهما بالآخر، إلى تجميعٍ تدريجيّ لبورتريه بانكسي، وتُبرز تفاصيل تبيح بها لوحاته جوانب من حياته وفكره السياسي، ويحيط الاستقصاء الصحافي بجوانب مهمّة من تاريخه الشخصي، وعلاقاته التي تسمح بمعرفة سرّه، الذي يبقى غامضاً حتّى نهاية الوثائقيّ. بل يزداد الغموض، لأنّ دروب المسارات تأخذه إلى أمكنة وفضاءات أخرى أرحب، تُعطي معنى يُراد إيصاله، وتُجلي حقيقة أنّ الجميع يردونه بأنساق "استغلال" مختلفة.

 

 

كلّ صحافي يحلم بأنْ يكون أول كاشفٍ للّثام عن وجه الفنان، بينما يحرص محبّوه على إبقاء هويته مجهولة، خوفاً عليه من انتقام السلطات وكُره الأغنياء. التخفّي يغدو هاجساً عاماً، يُحدِث انشقاقاً وتبايناً في الرؤى والمصالح. هذا تُجليه متابعة الوثائقيّ لكل كشف صحافي، مُحقّقاً (الوثائقي) في صحّة كلّ كشفٍ، من المكان الذي ينطلق منه الكشف.

هكذا تحضر منطقة بريستول (غرب بريطانيا)، حيث ترعرع، ومدينة نيويورك، مالئ جدرانها بأعمالٍ صاخبة، تُشيع رعباً وتُزعج رجال الشرطة، الذين لم تفلح مطاردتهم له في كشف هويته الحقيقية، رغم الوسائل الحديثة لمراقبتهم إياه. مُنجزه الأمميّ يحوّله إلى ثائر كونيّ كغيفارا، أو ملاكاً يجوب العالم بحثاً عن مقهورين ينتظرون مواساته، كالفلسطينيين، وآخرين عاجزين مثلهم عن إسماع شكواهم.

التحرّي الصحافي يخضع لـ"لعبة" يقودها أصدقاء ومحبّون، يتعمّدون التشويش وإشاعة الأكاذيب حوله. يفصح وكيله السابق ستيف لازاريدس عنها، ما يُزيد حيرة الملاحقِين له، ويُصَعِّب مهمتهم. هذا كلّه يمنح الوثائقي تدفّقاً سردياً، تزيد من قوّة إيقاعه أساليب تصوير (جوزيف هالي وماتياس دِنيزو) وتوليف (شيموس هايلي) متحرّرة، تُضبط عبر متنٍ حكائي، يأخذ أحياناً شكل ذكريات مروية بهدوء تأمليّ تحليلي، وأحياناً أخرى شكلاً رومانسياً حُلمياً.

وسط هذا كلّه، لا يظهر بانكسي "حياً". لا يريد الوقوف أمام كاميرا، ولا الظهور علناً. لذا، ولكي يلتقونه، يعود المخرجون الثلاثة إلى مُنجزه السينمائي كمخرج، "مَخرَج عبر متجر الهدايا" (2010)، الذي يُلاحق فيه رسّام غرافيتي آخر يُدعى تييري جوتا (فرنسي مُقيم في الولايات المتحدة الأميركية). مُنجز يُعبِّر عمّا يغلي فيه، ويُريد استنساخ نفسه من خلاله.

هذا يكرّره صُنّاع "بانكسي أكثر المطلوبين": استنساخ شخصية البطل بآخرين، يرون فيه أنفسهم. هؤلاء يمنحون الصورة معنى، ويعيدون صوغ حياته ومُنجزه من زاويتهم الخاصة. لكنّهم، في النهاية، وربما من دون علمهم، يُكمِلون إنجاز لوحة الـ"بازل" الكبيرة، التي يظهر بطلهم فيها مُعانداً رأسمالية همجية وليبرالية جديدة تكرّسان تفاهةً. بهذا المعنى، لم يعد لحلّ "الأحجية" أهمية، طالما أنّ الفنان نفسه يتماهى مع بشر مثله.

المساهمون