بازوليني متجوّلاً في مدنه: عالمٌ آخذٌ في الزوال

05 مايو 2022
بيير باولو بازوليني أثناء تصوير La Ricotta (بيتمان/Getty)
+ الخط -

100 عام مرّت على ميلاد أحد أهم روّاد السينما الشعرية، بيير باولو بازوليني (1922 - 1975). الفنان الشامل، الذي عاش طوال مسيرته الفنية والسياسية على هوامش الحقول الراسخة؛ الشيوعي ذو الميول اليسارية المشكك في اليسار المتشدد، المثلي غير الملتزم بقضايا الجندر والجنسانية، والثوري المتخوف من إنتاجات الثلاثينيات المجيدة، أو "المعجزة الاقتصادية" كما سماها الإيطاليون.

انتقدت أعماله ما أطلق عليه مصطلح "الرأسمالية الجديدة"، وبحثت في أسلوب حياة "البرجوازية الصغيرة"، وتأثرها بشتى الأحداث السياسية والاجتماعية والحقوقية، ومنها حركة الحقوق المدنية.
توازى عمل بازوليني في النقد السياسي والاجتماعي، مع بحث آخر أقل شعبية له، يستنبط المعنى من مواد الحياة اليومية، ويبتكر رابطًا بين النظرية الفنية والعلوم الجغرافية؛ فاهتم بازوليني بالسياسات الحضرية، وطرح أسئلة عديدة حول النسيج الحضري للمدن الزراعية المنفتحة حديثًا على الصناعة، وقدّم قراءات سيميائية للتحولات الطارئة على المدن والأرياف، في ظل الانتقالات التاريخية، أشهرها الثورة البنائية والاقتصادية في الخمسينيات الإيطالية.

شغلت المدينة حيزًا كبيرًا من أعمال بازوليني الأدبية والسينمائية، بوصفها تركيبًا زمنيًا ومكانيًا للعلاقات الاجتماعية، ومركزًا يتجاهل محيطه باستمرار. صورها تعكس القضايا السياسية والثقافية والأيديولوجية الرئيسية في السياق الاجتماعي المتغير لإيطاليا، وتوحي بالصراع الذي كان قائمًا بين إرث غرامشي والنزعة الاستهلاكية، كما الريف مقابل الحضرية.

بدأت قصة بازوليني مع مدينة روما حال انتقاله إليها عام 1950، أي بداية موجة هجرة فلاحي الأرياف والضواحي الفقيرة إلى المدن الكبيرة، مثل روما وميلانو، بحثًا عن الفرص. تجربة الهجرة الجماعية، إلى جانب الظروف التي عمت إيطاليا آنذاك، قادت بازوليني إلى صورة قاتمة عن المدن الكبرى... صورة سرعان ما شقت طريقها إلى أولى أعماله السينمائية. المدينة "البائسة المذهلة"، على حد تعبيره، قذرة ومغمسة بالوحل، قاسية لا تبالي بفقرائها، وخصوصًا ساكني الأحياء الفقيرة المهمشة المعروفة باسم Borgate، حيث حُشر مهاجرو إيطاليا الأفقر، وبينهم بازوليني، بلا أدنى مقومات الحياة أو أساسيات البنى التحتية.

يرسم بازوليني، عبر السينما والشعر (وهاتان مفردتان مترادفتان عنده)، عالمًا آخذًا في الزوال، مدنًا تتبدل، وتاريخًا يُلاحق على الدوام بطرف ممحاة. "لا شيء يجبرك على النظر إلى الأشياء بقدر صناعة فيلم"، يخبرنا بازوليني، وهو من رأى كيف تحولت ايطاليا إلى "مدينة صغيرة"، تُطمس فيها المسافات بين المدينة وضواحيها، ويُحرم ريفها من هيكله الشخصي والتاريخي، بفعل التوسع المدني في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته. يشير بازوليني في فيلم وثائقي، بُث عام 1974، إلى حجم الإهانة والألم اللذين تجلبهما المباني الجديدة لروحه "الناشئة على الجمال".

كان الأمر واضحًا بالنسبة إليه: مزج أنماط الحياة المتباعدة، ومحو الاختلافات بين الفضاءات التي ما هي إلا مساقط للواقع، سيؤدي في النهاية إلى "الإبادة الثقافية" لتاريخ تلك المناطق، وإلى تحريف واقع الضواحي الفقيرة التي لطالما كانت موطنًا لثقافة وأسلوب حياة متواضعين، فاضحة بمجرد وجودها تناقضًا يقبع في جوهر الرأسمالية الصناعية. "بات المزارعون والعمال في مكان آخر مع أنهم ما زالوا هنا ماديًا"، يشرح بازوليني، "ووجد حق الفقراء في حياة أفضل منعطفًا طبيعيًا أدى إلى الإضرار بهذا الوجود".

رأى بازوليني أن إضفاء الطابع الديمقراطي على الاستهلاك، سيتسبب في تشويه العلاقات الاجتماعية وتخريب استقلالية الريف، فضلًا عن دور هيمنة وسائل الإعلام، ولا سيما التلفزيون، في تعميم نمط الحياة الواحد، أو "التطبيع"، كما درجت تسميته حينها. الفقراء ما زالوا فقراء، لكن بتزيينات خادعة وزخرفات لا تخدم إلا صورة إيطاليا المدرة للمال.

المدينة تختفي عندما لا تحميها الدولة أيضًا، وتستحيل أنقاضًا فكرية ومادية بلا روح حقيقية، ويغدو مركزها حكرًا على قلة قليلة فقط. لذلك، رفض بازوليني وسط المدينة باستمرار، عاملًا على تقويض صورة روما السياحية والجذابة، وأدار كاميرته بعيدًا عن المجتمع المتحضر الهش، إلى أطراف المدينة، حيث تتراكم بقايا الثقافة التي عفا عليها الزمن، ويُطحن السكان يوميًا في مدن صفيح ومنازل منهارة وأراض قاحلة.

يستذكر الممثل توتو الأماكن التي كان عليه أن يعبرها عند تصوير فيلم Hawks and Sparrows: "كانت مشاهد مرهقة؛ المشي في الوحل، في الطين، في الرمال المتحركة". ولم تكن تجارب ممثلي أفلام بازوليني الأخرى بعيدة عن تجربة توتو الشاقة، فمن الحي الأول للطبقة العاملة في روما، عبر فيلم "أكاتوني"، إلى مجمع توسكولانو السكني الثاني في "ماما روما"، وصولًا إلى الطريق النائي نصف المبني في فيلم "الصقور والعصافير"؛ كلها تستكشف ما سماه جون ديفيد رودس "قصة النمو السريع والطائش لهوامش المدن، والتي يمكن قراءتها في عدد لا يحصى من المباني السكنية المجهولة ومشاريع الإسكان... قصة إعادة تعريف روما في فترة ما بعد الحرب".


المدن في أفلام بازوليني مجردة من رموزها التاريخية والثقافية ومن سياقها الزمني الذي يحددها، فهي خليط البارحة واليوم والغد؛ هي ذاكرة فريولي الحاضرة دومًا في الخلفية، حيث نشأ بازوليني في وسط ريفي يغص بالكنائس والطقوس الدينية، وحاضر المدن التي تتآكل من داخلها، لتغدو كما وصفها بطل فيلم بازوليني القصير La Ricotta: "أطلالا قديمة لم يعد أحد يفهم أسلوبها ولا تاريخها، ومباني حديثة فظيعة يفهمها الجميع".

روما في فيلم بازوليني Accattone، الصادر عام 1961، ليست إلا أكواخًا فقيرة مرصوصة، وأحياء صفيح مهجورة يزور سكانها معالمها الأشهر؛ إما بغرض السرقة، أو الدعارة. الإطارات التي يستخدمها المخرج في تصوير اللقطات "الموجهة أيديولوجيًا"، إلى جانب أسلوبه في المونتاج، يعكسان التشظي المكاني والزماني الذي عاشه قاطنو تلك الأحياء المعدومة، وكيف تقودهم مدنهم الظالمة، ماضيهم، وتطلعاتهم الأكبر من أن يملكها ساكن الحي الفقير إلى الهلاك المبكر، كما حدث مع القواد أكاتوني.

لا تتحسن تلك الصورة القاتمة مع فيلم "ماما روما" (1962). في هذا العمل، تصارع امرأة عملت في الدعارة سابقًا، لتحقيق حلمها في الانتماء إلى الطبقة الوسطى؛ فتسترجع ابنها الذي أرسلته للعيش بعيدًا في قرية غيدونيا الإيطالية، محاولة "تمدينه" خلال فترات المعجزة الاقتصادية، تماشيًا مع مادية المدينة الحديثة ونمط استهلاكها. لكن وصمة العار والدونية لا تفارق العائلة الصغيرة؛ فيعود قواد الأم لابتزازها بكشف الماضي، ويتورط الابن في جريمة تتركه جثة ممددة كالمسيح في وضعية الصلب على سرير السجن. تضفي الميتات المحتومة التي تنتهي إليها معظم شخصيات أفلام بازوليني شعورًا بأن ساكني تلك الأحياء الفقيرة ليسوا إلا جثثًا سائرة، أو ذوات تحيا في ظل المدينة، تشي مشيتها، مثل ماما روما، بثقل انحدارها عن بروليتاريا الضواحي.

لم يختر بازوليني الاتكاء على الجمال المعماري والطبيعي الذي تتميز به إيطاليا، بل سعى إلى تصوير ما هو خفي عن الأعين، فعرضته واقعيته المفرطة لاعتراضات الجناح اليميني الذي استنكر تصوير روما "غير المحبذ جماليًا"، والمنفر سياحيًا. رغم كل الانتقاد، بقي بازوليني مخلصًا لنهجه، وظلت المدينة هاجسًا يلاحقه حتى انتهت حياته على حافتها، تحديدًا على الواجهة البحرية في أوستيا، حين قُتل في الليلة ما بين 20 و21 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، تاركًا فيض مشاعره وأحاسيسه تحيا حتى اليوم في صور وقصائد وأفلام.

المساهمون