باريس 1940: الطرق التي عبرها الفرنسيون في نزوحهم

23 سبتمبر 2020
تظهر الصور حالة الهلع والهروب الجماعي للفرنسيين (فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور ما يقارب الثمانين عاماً على بداية الحرب العالمية الثانية، يقدم متحف التحرير الفرنسي Musée du Général Leclerc de Hauteclocque et de la Libération de Paris – Musée Jean Moulin في باريس معرضاً للصور بعنوان نزوح الباريسيين 1940 Parisian Exodus.

يشتمل المعرض على مجموعة من الصور والأفلام والوثائق التي تعرض أحداث نزوح مليوني باريسي قبيل الهجوم الألماني على باريس. فمع تحرك الجيش الألماني نحو المدن الفرنسية، نزح ما يعادل ثمانية ملايين فرنسي عن منازلهم بحثاً عن الأمان في المدن الأخرى.

ومع رغبة القائمين على المتحف في استعادة هذا الحدث عبر الصور، يأتي السؤال: هل يستطيع لمتحف أن يعكس ألم النزوح؟ وهل يمكن للصورة أن تظهر معنى الخوف؟ كيف يمكن أن نستعيد معاناتنا من دون أن نقع في فخ الفجاجة أو تبسيط المعاناة واستهلاكها؟
ليست الصورة توثيقاً للواقع، بل هي استعادة نضفي عليها معاني تنبثق من رؤيتنا الحالية للماضي. فالتعامل مع الصورة كشاهد صادق، هو تجاهل لحقيقة أن المعنى الذي تأخذه يبنى بحسب رؤيتنا للتاريخ. وترى سوزان سونتاغ في قراءتها لفن التصوير، The image-world، أن الصورة ليست أداة للذاكرة، بل هي اختراع أو استبدال لها. وكذلك ليس المتحف شاهداً حيادياً، بل هو طريقة لعرض روايتنا وتصورنا عن الواقع.

هل يستطيع لمتحف أن يعكس ألم النزوح؟ وهل يمكن للصورة أن تظهر معنى الخوف؟ كيف يمكن أن نستعيد معاناتنا من دون أن نقع في فخ الفجاجة أو تبسيط المعاناة واستهلاكها؟


وضمن هذه الرؤية، يأخذ معرض نزوح الباريسيين أهميته لكونه سرداً لمأساة الإنسان في مواجهة رعب الحرب من خلال الحاضر الذي يأتي بعد انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية وتحطيم خطاب النازية. وبالنظر إلى هذه الشرطية، يصبح من المثير معرفة الكيفية التي يسرد الفرنسيون من خلالها رؤيتهم لتاريخهم كمنتصر في نهاية حرب طاحنة.
يأخذ المعرض شكل غرف مصغرة تنقل الزائر في أروقتها التي تروي كل منها حدثاً يرتبط بنزوح الباريسيين زمنياً، ويبدأ من عام 1936. تتنوع طرق السرد التي تضع الزائر في حالة شعورية عالية لدى عبوره بين الأروقة التي تحاكي ما عاناه أولئك الباريسيون. فمن خلال الصور، نرى بداية كيف تم التعاطي مع احتمالية وقوع حرب ثانية، حيث عانى الناس من حرب أولى أرهقت كاهلهم وعصفت ببلادهم واقتصادها. وتضم المجموعة الأولى كيساً تمت خياطته لوضع أغراض النزوح الذي استخدمته سيدة كانت قد صممت كيساً مشابهاً له في الحرب العالمية الأولى.

معرض نزوح الباريسيين (تويتر)
من صور المعرض (تويتر)

في قسمه الأول، يقترح المعرض على زائريه صورة للقيمين على المعرض العالمي لعام 1937 في باريس حيث عرضت لوحة غارنيكا Guernica لبيكاسو، في جناح إسبانيا، المفتوح للجمهور من 12 يوليو 1937.
وعلى الجدران، تم تنصيب شاشات تعرض أفلاماً قصيرة بالأبيض والأسود من تلك المرحلة تبين الأحداث الرئيسة المرتبطة بنزوح 1940. كما استخدم المعرض نصوصاً مكتوبة على الجدران تروي النقاط التاريخية والاجتماعية الأساسية المرتبطة بكل مرحلة.
تظهر الصور الاستعدادات وتدريبات الدفاع المدني التي كانت مصممة لقصف جوي وليس لهجوم بري. ويقدم المعرض قناعاً للغاز من تلك المستخدمة في تلك الحقبة للحماية من هجوم كيماوي. كما تم عرض صور تظهر أن عدم التخطيط والاستعداد لهجوم بري سبّب الرعب والذعر بين الفرنسيين عندما باشر الألمان بهجومهم على المدن الفرنسية عازماً اقتحام باريس. وبينما كان المخطط إخراج الأطفال نحو المدن والقرى في الجنوب وجد الباريسيون أنفسهم في حالة خوف وهلع أجبرتهم على النزوح بشكل فوضوي من بيوتهم نحو الجنوب.

معرض نزوح الباريسيين (تويتر)
من صور المعرض (تويتر)

ضمن هذه السردية يعرض المتحف صوراً لأطفال مبتسمين متوجهين نحو القرى ظناً منهم أن أهلهم قاموا بإرسالهم في إجازة ويأتي هذا قبل الهجوم البري. في ما بعد تظهر الصور حالة الهلع والهروب الجماعي للفرنسيين في 1940 الذي تسبب في سد الطرقات، ونتج عنه ضياع ما يقارب 90 ألف طفل عن ذويهم. يقدم المعرض بعضاً من الوثائق بأسماء الأطفال الضائعين وصوراً مأخوذة لعدد منهم قبل فقدانهم.
تبين الأفلام القصيرة المعاناة التي عاشتها مدن أوروبية أخرى تعرضت للقصف والتدمير من قبل الجيوش النازية. كما يظهر الاستعدادات البريطانية لمواجهة الهجوم الألماني. ترافق هذه المقاطع والصور خرائط لسير المعارك العسكرية والتي تدل على تقدم الألمان في المعركة.

في منتصف المعرض، يصادف الزائر شاشة عرض كبيرة يعلو فيها خطاب وينستون تشرشل الأول بعد توليه رئاسة الوزراء قائلاً: "سنحارب في فرنسا، سنقاتل في البحار والمحيطات، ستزداد ثقتنا وتغمرنا قوتنا مع كل معركة جوية، سندافع عن أرضنا، مهما كان الثمن، سنحارب على الشواطئ، وسننازل العدو في المهابط، سنبارز العدو في الميادين ونشتبك في الشوارع، بل سنصل للتلال، ولن نستسلم أبداً". هذه الكلمات هي الوحيدة التي تسمع عبر المعرض، وهي تتكرر مجدداً مع كل عرض للفيديو الذي يبين تحالف الفرنسيين مع البريطانيين ضد الألمان. تأتي هذه الشاشة في مقابل صورة تاريخية تعرض دخول هتلر إلى باريس وسيره أمام برج إيفل في مدينة مقفرة.
بعدها، يحمل المعرض الزائر ليبين الطرق التي عبرها الفرنسيون في نزوحهم. يترافق هذا السرد مع صور رسمها أطفال باريسيون تصف رحلة نزوحهم وتروي معاناتهم وخوفهم من الحرب. كما يعرض فيديو شهادة لسيدة باريسية متقدمة في العمر، وهي تستذكر تجربتها المريرة عندما أدركت أثناء نزوحها مع أهلها أن مدينتها أصبحت مدينة محتلة، وصدمتها بسبب خضوعهم للاحتلال. من الجدير بالذكر أن المعرض تجنب تقديم صور صادمة أو مناظر مؤلمة، وبالرغم من ذلك، ينجح في كسب تعاطف المشاهد وحمله إلى التماهي مع معاناة الشاهدين على كارثة النزوح. كما يعترف المعرض بالأخطاء المرتكبة، ويبين الخلل الذي سمح بتعرض الملايين لفاجعة تاريخية.
ومن دون رفع جرعة الخطاب الوطني، يظل المعرض ملتزماً بأن يعكس الجانب الإنساني من الحدث. يختتم المعرض رحلة الزائر بالإشارة إلى أن خلو باريس من قاطنيها في فترة الحجر بسبب Covid-19 أعاد إلى الأذهان مأساة هذه المدينة في فترة النزوح، مذكراً بأن الماضي لم يزل قريباً من الحاضر. 

المساهمون