باب العامود... رمضان حاضر على مدرّجات الساحة
"وضع القدس محزن، فهي محاصرة لا يستطيع أن يصل إليها الفلسطينيون من الضفة وقطاع غزة، هي تختنق (...) أن ترى الناس يتوافدون على باب العامود أمر مفرح ويبعث على الأمل، فوجود العائلات والشباب واليافعين والأطفال يحول دون تهويد هذه المنطقة والسيطرة عليها من قبل سلطات الاحتلال، كما من شأن تجمعات كهذه إنعاش الحالة الاقتصادية، ولو نسبياً، بالنسبة لتجّار البلدة القديمة في القدس الذين نريد أن يصمدوا، لا أن يتركوا المدينة لغير أهلها". بهذه العبارات، اختصرت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة أهمية ما يحدث في ساحة باب العامود في القدس، العام الماضي، قبل قرابة شهرين على استشهادها، في حوار مصوّر مع الفنان حسام أبو عيشة الذي استعاد تعميم الفيديو، ونقله كثيرون عنه. أشار أبو عيشة نفسه، وهو يحادث أبو عاقلة، إلى أن "وجودنا بحد ذاته في باب العامود يتسبب بقهر الاحتلال، حتى لو قمنا بالجلوس، أو الغناء، أو تبادل ركلات كرة القدم. وجود أي فلسطيني على درج باب العامود بحد ذاته فعل مقاومة في مواجهة محاولات التهويد، وإخلاء القدس من أهلها".
وهذا العام، تعيش ساحة باب العامود أجواء رمضانية خاصة، إذ تتزيّن بشكل بارز بالأضواء والفوانيس. ويتوافد عشرات الآلاف في أيام الجمعة عبرها إلى المسجد الأقصى، والمئات بشكل يومي، فمنهم من يفضلون تناول وجبة الإفطار فيها، ومنهم من يتوافدون إليها ما بعد صلاة التراويح. ليس فقط من أهل القدس وسكّانها، أو من المدن والمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، بل ممّن أتيح له العبور من مدن الضفة الغربية، لتغدو الساحة ملتقى للجميع، يتناولون الحلويات ما بعد الإفطار، ومنهم من يبقى لتناول وجبة السحور هناك.
ويتوافد الناس بشكل تلقائي، ومن بينهم فرق موسيقية تنشد التواشيح والأغنيات الدينية، سواء الرمضانية منها أو المدائح النبوية، وغيرها، أو فعاليات ثقافية تراثية أو ذات طابع وطني، تنتظم تلقائياً أو بترتيب من مؤسسات ثقافية فلسطينية تحرص على الحفاظ على الطابع الثقافي العربي الفلسطيني للقدس، بما فيها ساحة باب العامود، وسط تفاعل كبير من الجالسين على مدرجات الساحة، فيما ينتشر الباعة الجوّالون، لتتحوّل المنطقة إلى متنزه كبير، لطالما شهد وقد يشهد أحداثاً دامية، بسبب اعتداءات قوات الاحتلال المتواصلة، منذ احتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967، ومن قبل قطعان المستوطنين في السنوات الأخيرة.
في هذا السياق، يلفت الناشط المقدسي أسامة برهم لـ"العربي الجديد" إلى أن تحوّل ساحة باب العامود بمدرّجاتها الشهيرة إلى موقع للمواجهة ثم للتصدي والصمود بدأ مع إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، ما حفّز شهية الاحتلال للتدخل أكثر فأكثر في شؤون المقدسيين مسلمين ومسيحيّين. وعليه قامت سلطات الاحتلال بوضع "حدايد" لمنع ما يصفونه بـ"الشغب"، ما جعل من تلك المنطقة بؤرة مشتعلة، ولفت انتباه ليس فقط المقدسيّين أو الفسطينيين أو العرب إلى منطقة باب العامود، بل العالم كلّه، خاصة مع إطلاق صواريخ من غزة رداً على استفزازات المستوطنين والاحتلال، والعدوان المضاد على القطاع.
في تلك الفترة، والحديث لبرهم، قرّرت سلطات الاحتلال محاولة منع أي وجود للفلسطينيين في منطقة باب العامود، بمن فيهم الأطفال، ما نتج عنه انتفاضة أطلقنا عليها وصف "انتفاضة الحدايد"، وقادها الأطفال واليافعون ممّن أصروا على حقهم بالجلوس على درجات باب العامود، وتواصلت هذه المقاومة حتى رضخ الاحتلال، وعاد الفلسطينيون إلى ساحتهم وعنوانهم الأبرز في القدس، بعد عامين من النضالات، وكان ثمنها باهظاً.
إعادة الاعتبار لليالي رمضان بشكل بارز في "باب العامود" هذا العام مردّها، حسب ما برهم، إلى أن أهالي القدس، وخاصة بعد "شيطنة رمضان" من قبل المسؤولين في حكومة الاحتلال وقيادات المستوطنين ووسائل الإعلام الإسرائيلية، عمدوا إلى استثمار الهدوء الذي قد يكون يسبق العاصفة، أو ما يمكن وصفه بالانقلاب على حالة الهدوء من قبل الاحتلال بكافة مكوّناته، خاصة إذا ما سُمح للمستوطنين بإدخال قرابين إلى الحرم القدسي.
وثمة حالة لافتة في باب العامود، فهناك من يوزع التمور والمياه على الصائمين، وهناك من يوزّع وجبات غذائية على المارة، أو الحلوى على الأطفال خاصة، وبشكل مجاني، من باب فعل الخير عامة، أو كصدقة جارية عن أرواح الراحلين من أقاربهم، ما ساهم في بث الحياة في القدس من جديد في شهر رمضان.
جدير بالذكر أن ارتفاع باب العامود يبلغ ثمانية أمتار، وهو من أكثر أبواب القدس ثراء من حيث الزخارف، ويعود تأسيسه إلى الحقبة الرومانية، إذ تمّ وضع عمود من الرخام الأسود وصل ارتفاعه إلى ضعف ارتفاع الباب في الساحة الداخلية، استخدم كأداة لقياس بعد مسافات الدول والمدن في العالم عن مدينة القدس، وله اسم آخر أقلّ تداولاً هو باب دمشق، باعتبار أنه الباب الذي كانت تخرج منه القوافل التجارية إلى دمشق.