انتهاكات حرية التعبير في فرنسا: بالجرم المشهود

01 ديسمبر 2020
ضرب أمير الحلبي بهراوة على رأسه خلال التغطية (سمير الدومي/فرانس برس)
+ الخط -

لا يمكن للنفاق الفرنسي الرسمي في ملف الحريّات أن يتجلّى بوضوح أكبر ممّا هو ظاهرٌ في هذه الأيام. فبعد جدل وغضب عالمي إثر الرسوم المسيئة إلى النبي محمد، والحملة الفرنسيّة على الكيانات الإسلاميّة فيها، والردّ الإسلامي المطالب بمقاطعة البضائع الفرنسيّة، وما حملته تلك الحملة من عنوان "الدفاع عن قيم الجمهوريّة الفرنسية، وفي مقدّمتها حريّة التعبير"، تسلّط العين على فرنسا مجدداً، ولكن لناحية انتهاكها لحريّتي التعبير والصحافة.

ففرنسا التي فنّدت منظّمة العفو الدولية (أمنستي) أوائل نوفمبر الماضي نفاقها، إذ إنّها سجنت أشخاصاً بسبب تعبيرهم عن رأيهم أو معارضتهم للرئيس مانويل ماكرون، تريد تمرير قانون "الأمن الشامل"، الذي يحتوي في أحد بنوده على حماية الشرطة من توثيق تعنيفها وسوء معاملتها للمواطنين، وتجريم تصوير العناصر بدعوى الأمن، فيما هم يستشرسون بالقمع والضرب، ما تجلّى في حادثتين سبّبتا صدمةً وغضباً واسعين، خلال أسبوع واحد. الأولى كانت في الاعتداء على المنتج الموسيقي ميشال زيكلير، والثانية في الاعتداء على المصوّر الصحافي أمير الحلبي.

وقالت "أمنستي" في تقرير لها نُشر في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني إنّ "الحكومة الفرنسية ليست نصيرة حرية التعبير كما تزعم. ففي عام 2019، أدانت محكمة فرنسية رجلين بتهمة "الازدراء" بعد أن أحرقا دمية تمثل الرئيس ماكرون خلال مظاهرة سلمية. ويناقش البرلمان حالياً قانوناً جديداً يجرّم تداول صور المسؤولين عن إنفاذ القانون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الصعب التوفيق بين هذا التوجه ودفاع السلطات الفرنسية الشرس عن حق تصوير النبي محمد في رسوم كاريكاتورية. وأضافت المنظمة أن "سجل فرنسا في حرية التعبير في مجالات أخرى قاتم بذات القدر. ففي كل عام يُدان آلاف الأشخاص بتُهمة "ازدراء الموظفين العموميين"، وهي جريمة جنائية مُعرَّفة بشكل غامض وطبقتها سلطات إنفاذ القانون والسلطات القضائية بأعداد هائلة لإسكات المعارضة السلمية. ففي يونيو/ حزيران من هذا العام، وجدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن إدانة 11 ناشطاً في فرنسا بسبب قيامهم بحملة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية تنتهك حقهم في حرية التعبير. وقد أدى مقتل صامويل باتي أيضاً إلى اتخاذ السلطات الفرنسية إجراءات تُذكر بحالة الطوارئ التي أعقبت هجمات باريس عام 2015. ففي مطلع ذلك العام، أدت الإجراءات الاستثنائية، التي وافق عليها البرلمان في ظل حالة الطوارئ، إلى حدوث الآلاف من عمليات المداهمة، وفرض الإقامة الجبرية التعسفية والتمييزية المجحفة التي تستهدف المسلمين".

وتزامناً مع الحراك الشعبي الأميركي الداعي إلى وقف عنف الشرطة المنهجيّ ضد السود واللاجئين والفئات المهمّشة، إثر مقتل جورج فلويد على يد شرطي خلال هذا العام، حصلت تظاهرات في فرنسا ضدّ عنف الشرطة والعنصريّة أيضاً. لكنّ وزير الداخليّة الفرنسي جيرالد دارمانان، ومعه كتلة الأكثرية التابعة للرئيس إيمانويل ماكرون في البرلمان "الجمهورية إلى الأمام" لم يمتثلا لرغبات المواطنين، فزاد الاستشراس في "حماية الشرطة"، الذي انعكس تالياً في استشراس عناصر الشرطة ضدّ المواطنين، ما تحوّل في نوفمبر الماضي إلى حملةٍ ضدّ حريّة التعبير نفسها، لكون الصحافيين والناشطين أصبحوا هدفاً للتعنيف بعد رفضهم قانون "الأمن الشامل" الذي يمنعهم من مساءلة الشرطة على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتوثيق تلك الانتهاكات.

ووسط أجواء سياسية مشحونة تواجهها الحكومة التي تتعرض لحملة يشارك فيها صحافيون ومخرجون ومعدو وثائقيات، ونشطاء حقوقيون ومواطنون، احتجاجاً على مشروع القانون الأمني، نشر موقع "لوبسايدر" الإلكتروني الخميس تسجيل فيديو يظهر تعرّض المنتج الموسيقي ميشال زيكلير لضرب مبرّح على مدى دقائق عدة داخل الاستوديو الذي يملكه في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر على أيدي ثلاثة شرطيين قبل أن يقدم شرطي رابع على إطلاق الغاز المسيل للدموع داخل المكان. وأظهر تسجيل ثانٍ نشره يوم الجمعة أحد جيران زيكلير، الأخير وهو يتعرّض للضرب مجدداً في الشارع بعد إخراجه من الاستوديو، على الرغم من وجود عدد كبير من الشرطيين في المكان، إلا أن أياً منهم لم يحرّك ساكناً.

قال زيكلير إنه تعرّض مراراً لإساءات عنصرية، ووُصف بأنه "زنجي قذر"، لكنّ الشرطيين "نفوا ذلك". وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها مقطع مصور لعنف الشرطة ضد مدنيين في فرنسا وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا المقطع الذي كشف عنه تحقيق أجراه موقع "لوبسايدر" أحدث هزة سياسية، لوضوحه وعدم وجود أي حجة تمكن الشرطة من تزوير الوقائع. ولقسوة الصور وردود الفعل الكبيرة عليها التي وصلت إلى دعوات لاستقالة وزير الداخلية وقائد شرطة باريس ديدييه لالما، حاول الرئيس الفرنسي تدارك الموقف، في بيان طويل صدر عن الإليزيه مساء الجمعة، قال فيه إن "الصور التي رأيناها جميعاً للاعتداء على ميشيل زيكلر غير مقبولة. إنها تشعرنا بالعار... يجب ألا تسمح فرنسا أبداً بتغذية الكراهية أو العنصرية".

ومَثُل، الأحد الماضي، عناصر الشرطة الأربعة الذين اعتُقلوا بعدما ظهروا في التسجيل وهم يضربون زيكلير، أمام المدّعي العام في باريس ريمي هيتس، الذي طلب التوقيف المؤقت لثلاثة منهم وأحال الملف على قاضي تحقيق، فيما طلب وضع الشرطي الرابع الذي أطلق الغاز المسيل للدموع تحت رقابة قضائية. لكنّ هذه الحادثة لم تكن وحيدة. فمساء السبت، اجتاحت عموم فرنسا احتجاجات واسعة تحت عنوان "مسيرات الحرية" لرفض مشروع قانون "الأمن الشامل" الذي حصل على الضوء الأخضر من البرلمان الفرنسي، وتنص إحدى مواده على عقوبة السجن سنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو في حال بثّ صور لعناصر من الشرطة والدرك بدافع "سوء النية". خلال تلك التظاهرات، كان المصوّر السوري أمير الحلبي يغطي الحدث بصفته صحافياً مستقلاً، قبل أن تعتدي عليه الشرطة بالضرب لممارسته عمله.

وقال المصور الصحافي السوري أمير الحلبي (24 عاماً) الذي أصيب بجروح بعد اعتداء الشرطة الفرنسية عليه، خلال تغطيته تظاهرة احتجاجية على قانون "الأمن الشامل" الفرنسي وعنف الشرطة في باريس، إنه أصيب "بصدمة كبيرة"، وإن ما تعرّض له أعاده بالذاكرة إلى الحرب الأهلية في سورية

وقال أمير الحلبي الأحد في اتصال هاتفي أجرته معه وكالة فرانس برس: "أنا بحال أفضل. كانت الصدمة شديدة للغاية، وخصوصاً لحظة وجدت نفسي جريحاً ووجهي ينزف وعالقاً على مدى ساعتين داخل التظاهرة، بين المتظاهرين والشرطيين الذين لم يريدوا السماح لنا بالخروج للذهاب إلى المستشفى. عندها اجتاحت رأسي مشاهد من سورية". وتابع الحلبي: "لم أعد أشعر بألم في أنفي أو وجهي، بل كان ألماً يجتاح رأسي برمته، كان الماضي يعاودني"، موضحاً أنه "في سنّ الخامسة عشرة، وجدت نفسي في حلب عالقاً في تظاهرة، مصاباً برصاصتين في يدي. استذكرت حلب مساء السبت". وقال: "كنا مجموعة من أربعة أو خمسة مصورين، يمكن تمييزنا بوضوح، عالقين بين المتظاهرين والشرطة".

وانتقل الحلبي إلى فرنسا قبل حوالى ثلاث سنوات، وهو حائز العديد من الجوائز الدولية، بينها جائزة المرتبة الثانية لفئة "سبوت نيوز" لصور الصحافة العالمية "وورلد برس فوتو" في 2017، وغطى لحساب فرانس برس المعارك والدمار في مدينته حلب. كذلك حصل على جائزة "نظرة الشباب في سن الـ 15" عن صورة التقطها لفرانس برس تظهر رجلين يحتضن كل منهما رضيعاً ويسيران في شارع مدمر في حلب.

والأحد أيضاً، قال مصدر في الشرطة إن تحقيقاً داخلياً قد فتح لتبيان ملابسات إصابة الحلبي في الاحتجاجات. وكانت "فرانس برس" قد طالبت الشرطة الفرنسية بفتح تحقيق بعد إصابة الحلبي خلال تغطيته التظاهرة في ساحة الباستيل بصفته صحافياً مستقلاً. وقال مدير الأخبار في وكالة فرانس برس فيل شتويند: "صدمنا بالجروح التي لحقت بزميلنا أمير الحلبي ونندد بهذا العنف غير المبرر". وشدد على أنه عند حصول الوقائع كان أمير الحلبي "يمارس حقه المشروع كمصور صحافي يغطي التظاهرات في شوارع باريس" و"كان مع مجموعة من الزملاء الذين يمكن التعرف إليهم بشكل واضح على أنهم صحافيون". وتابع: "نطالب الشرطة بالتحقيق في هذا الحادث الخطير والتثبت من السماح لجميع الصحافيين بالقيام بعملهم دون خوف ولا قيود".

وكتب الأمين العام لـ"مراسلون بلا حدود" كريستوف دولوار، في تغريدة على تويتر، أن الحلبي "أصيب بجروح في وجهه بضربة هراوة"، مندداً بارتكاب الشرطة أعمال عنف "غير مقبولة". وأعربت هيئة تحرير مجلة "بولكا ماغازين" التي يتعاون معها المصور أيضاً، الأحد عن "تنديدها الشديد إثر الاعتداء الذي وقع ضحيته بأيدي الشرطة". وقال مدير المنشورات آلان جينيستار في بيان إن "ضربة الهراوة العنيفة التي جرحته في وجهه كانت تتعمد استهداف مصور صحافي يمارس مهنته بحرية".

المساهمون