امرأتا برلين وسربنيتسا: أيّ حبٍّ؟ أيّ خيبات؟

16 يونيو 2021
باولا بيير: أفضل ممثلة في برلين 2020 (كليمنس بيلان/ Getty)
+ الخط -

لا تشابه بين أوندين الألمانية (باولا بيير، 1995) وعايدة البوسنية (ياسْنا دوريتشيش، 1966). امرأتان تختلف إحداهما عن الأخرى، رغم أنّهما تتشاركان مواجهة القدر. الحبّ مُشتركٌ آخر، إذْ يُحرِّك كلّ واحدة منهما في مواجهتها هذا القدر. يدفعهما إلى اختبار أقسى التحدّيات. يُحرّضهما على اختراق كلّ حدّ وكلّ مصيبة وكلّ موت. أوندين عاشقة. عايدة زوجة وأم. في برلين، هناك تاريخٌ وذاكرة، لكنّ الراهن معقودٌ على حبّ يتوهّج في قلب امرأة إزاء شاب، سيتوهّج حبّه لها أيضاً في قلبه. عايدة مُصابة بلعنة حربٍ ومجزرة وانعدام فرصٍ للنجاة، وسط صراعات السياسة والمصالح والديبلوماسية، وفي مناخٍ عابقٍ بحقدٍ عنصريّ، وبعجز جنود الأمم المتحدّة عن فعل صوابٍ إنساني وأخلاقي.

أوندين اسم امرأة يُصبح عنواناً للفيلم الأخير للألماني كريستيان بيتزولد (1960). البوسنية ياسميلا زبانيتش (1974) تسأل: "إلى أين تذهبين، عايدة؟". الفيلمان مُنتجان عام 2020. الألماني معروضٌ للمرّة الأولى في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي". تفوز باولا بيير بجائزة أفضل ممثلة، التي تحصل على مثلها في "جوائز السينما الأوروبية 2020" (النسخة الـ33، 12 ديسمبر/ كانون الأول 2020)، ويحصل الفيلم على جائزة "الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (FIPRESCI)" في الـ"برليناله" نفسها. البوسنيّ معروضٌ للمرة الأولى في المسابقة الرسمية للدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي". مُرشَّح رسمي لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي (النسخة الـ93، 25 أبريل/ نيسان 2021).

هذه تفاصيل. الفيلمان معقودان على قهرٍ ومصائب ومخاوف وانكساراتٍ ورغباتٍ وأشواقٍ وخيبات وأوجاع. امرأتان تنتصران لحبٍّ، يقود كلّ واحدة منهما في دروبٍ مليئة بحُفَرٍ مُعتِمةٍ، أكثر من بُقَعٍ خضراء. الهاوية عميقة، لكنّ إصراراً نسائياً على العيش، رغم الموت، يجعل كلّ هاوية تمريناً على انبعاثٍ جديد، واختباراً لمواجهة جديدة. الحبّ يُصبح عشقاً يعطبه موتٌ فانبعاثٌ فاغتسالٌ من عنف عيشٍ وتطهرٌ من متاهاتٍ قاتلة، يصنعان (الاغتسال والتطهّر) فصلاً آخر لحياةٍ مجهولة (أوندين). الحبّ منبثقٌ من قلب زوجة ـ أمٍ، وهذا كافٍ لإدراك معنى مُقارعةِ حربٍ وقتلٍ وبؤسٍ واختناق، في جهدٍ يفوق كلّ احتمال، من أجل إنقاذ عائلةٍ (الزوجة والزوج وابنان اثنان)، لكنّ الزوجة الأم وحدها تنجو من قتلٍ، يُراد أنْ يكون تطهيراً عرقياً (عايدة).

التاريخ والذاكرة الألمانيان يحضران في مهنةٍ، تمارسها أوندين في متحف برلينيّ، تروي فيه ـ لزوّار ومهتمّين وباحثين ـ حكايات ومعلومات وتفاصيل عن مدينةٍ وعمارة وأحداثٍ (أوندين). التاريخ والذاكرة يُصنَعان في راهن امرأة، تتحوّل من مُدرِّسةِ اللغة الإنكليزية في سربنيتسا إلى مترجمة فورية في مقرّ للأمم المتحدّة (عايدة). خيبة حبٍّ تعيشها أوندين، قبل لقاءٍ يفتح لها منفذاً لخلاصٍ عبر حبّ جديد، ينتهي بخرابٍ يُصيبُ جسداً وروحاً وذاتاً وانفعالاتٍ وآمالاً ورغبات. لا خيبة في حبّ عايدة لرجالها الـ3، لكنّ الحرب رهيبة، والاقتتال بين طوائف ومذاهب يُطيح بكلّ شيء، والسياسة حقيرة، والمصالح أهمّ، والديبلوماسية لعنة، والأمم المتحدة نموذج للعجز المطلق. أوندين تنتقم، قبل انقشاع ظلمة القهر عن موتٍ أخير. عايدة ترغب في انتقامٍ، لكنّ زيارة منزلها المحتلّ من عائلة قاتل رجالها الـ3 (تلتقي زوجته وابنهما) تحول دون ثأر مطلوبٍ.

 

 

لبرلين تاريخ وذاكرة مليئان بعنصرية وتطهير عرقيّ. سربنيتسا تُشكّل تاريخاً وذاكرة جديدين، عن عنصرية وتطهير عرقيّ. السرد بارعٌ في التقاط بعضٍ منهما، بعيداً عن كلّ مباشرة. "أوندين" يُمعن في معاينة أحوال ذاك الحبّ المتوقِّد والقادر على صُنع معجزة الخروج من عمق الموت إلى قلب الحياة، رغم خرابٍ وألمٍ وفُراق. "إلى أين تذهبين، عايدة؟" مشغولٌ بحبّ امرأة تكترث لرجالها الـ3، فتحاول صُنع معجزة الخلاص، لكنّ الفشل أعنف، والسقوط في هاوية الانتقام مرفوض، فالعزاء يُصنع خارج الهاوية، والمصالحة مع الذات تنعقد من دون انتقام، إنْ تقدر عايدة على مصالحة كهذه، حقيقية وصائبة وضرورية.

الغرائبيّ، الذي يُتوِّج سيرة أوندين وحبيبها كريستوف (فرانتز روغوفسكي)، يأتي طبيعياً في خاتمةٍ تميل إلى هناءٍ وسكينةٍ. ملامح عايدة حادة وقاسية وصامتة، لانبثاقها من جرحٍ غائرٍ في روحٍ ونَفْس.

كريستيان بتزولد يكتب سيناريو "أوندين"، مقتبساً حكايته من "أوندين تغادر"، المنشورة في المجموعة القصصية "العام الـ30" (1961) للكاتبة النمساوية إينبورغ باخمان (1926 ـ 1973)، ذاهباً بالتفاصيل إلى الحبّ ومسالكه ومتاهاته ومشاغله. ياسميلا زبانيتش تعيش "حروباً صغيرة" في بلدها الممزّق (مواليد سراييفو، البوسنة ـ الهرسك)، وتنتقي مجزرة سربنيتسا (11 ـ 16 يوليو/ تموز 1995)، التي يرتكبها جنود "جيش جمهورية الصرب في البوسنة"، بقيادة الجنرال راتكو ملاديش (1942)، لسرد حكاية حبّ وخيبة وأعطابٍ. الحرب في "أوندين" نابعةٌ من قوّة الحبّ وآلامه. الحرب في "عايدة" غير ظاهرة ً كلّياً، فمظاهرها أكثر حضوراً، والقتل "يُسمَع"، والعنف جليٌّ في لحظاتٍ وكلامٍ وعجزٍ وطغيانٍ، إذْ تنكشف ملامحه في ما وراء اللقطة والأداء والسرد.

الفيلمان ـ المعروضان في الدورة الـ3 لمهرجان "قابس سينما وفنّ" في تونس، المُقامة بين 18 و25 يونيو/ حزيران 2021 ـ يرويان حكايتَي امرأتين، كلّ واحدة منهما تريد عيشاً، فتُصاب بموتٍ يختلف شكله من مصيرٍ إلى آخر.

المساهمون