تساهم عوامل عدة في تمكين التيارات اليمينية والدينية من تعزيز قدرتها على التأثير في الوعي الجمعي للإسرائيليين وتوجهاتهم السياسية، لعلّ أبرزها وتيرة التحكم المتعاظمة بوسائل الإعلام ورسائلها للجمهور.
وتُعدّ التحولات التي شهدها سوق الإعلام الإسرائيلي خلال العقد الأخير أحد أهم المتغيرات التي منحت القوى اليمينية والدينية مزيداً من الأدوات للتأثير في الرأي العام وتوجّهاته. وقد تمثلت أبرز هذه التحولات في توجه رجال أعمال يهود من إسرائيل والخارج إلى تأسيس وشراء وسائل إعلام لتكون ذات توجهات يمينية، سواء عبر خطها التحريري، أو من خلال استقطاب نخب يمينية لإدارتها والإشراف عليها.
وقد لعب الملياردير اليهودي الأميركي شيلدون أدلسون وزوجته ميريام، دوراً رئيسياً في هذه التحولات من خلال تدشين صحيفة يسرائيل هيوم، التي باتت أوسع الصحف الإسرائيلية انتشاراً وتجاهر بتوجهاتها اليمينية؛ إلى جانب شراء صحيفة ميكور ريشون، وجعلها تتوجه بشكل خاص إلى الجمهور الديني. وفي خطوة هدفت إلى إيصال رسائل اليمين إلى أوسع شريحة جماهيرية ممكنة قرر الزوجان أدلسون توزيع يسرائيل هيوم مجاناً.
ومما يدل على طابع التوجهات اليمينية المتطرقة لصحيفة يسرائيل هيوم حقيقة أنّ رئيس تحريرها السابق بوعز بسموت استقال عشية الانتخابات التي ستقام في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ليتنافس على قائمة حزب الليكود المعارض الذي يقوده رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو. وعند استعراض كبار المعلقين والمراسلين في الصحيفة فإنّهم من ذوي التوجهات اليمينية المتطرفة، على غرار أرئيل كهانا، ونداف شرغاي، وأرئيل سيغل، وعومر دستري، وغيرهم.
ولعلّ أكثر ما يشي بعمق رغبة الزوجين أدلسون في إضفاء صدقية على التوجهات اليمينية المتطرفة يتمثل في تعيين حجاي سيغل، الذي كان عضواً في التنظيم الإرهابي اليهودي الذي نفّذ في ثمانينيات القرن الماضي سلسلة عمليات إرهابية طاولت رؤساء بلديات فلسطينيين في الضفة الغربية، وخطط لتدمير المسجد الأقصى، رئيس تحرير لصحيفة ميكور ريشون.
وقد اقتفى الملياردير اليهودي إسحاق ميرشيولي، الذي يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والروسية أثر الزوجين أدلسون، ودشن قبل عام تقريباً قناة 14 لتعبر عن توجهات اليمين. وبخلاف جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية فإنّ قناة 14 تعمل آلة دعاية لليمين من دون أي قدر من الموضوعية والحيادية، وتتحرر رسائلها من أي مستوى من المعالجات المهنية، إذ يعمل مقدمو البرامج الحوارية والمراسلون فيها على التحريض بصورة فجة. على سبيل المثال في أحد التقارير على شاشة القناة تمنى المراسل كوبي فنكلر الموت للعرب.
وهناك صورة أخرى تعكس تعاظم تأثير القوى اليمينية والدينية في وسائل الإعلام الإسرائيلية. فوسائل الإعلام المنضوية تحت إطار سلطة البث التي تمولها الحكومة، لا سيما قناة كان الإخبارية وقناة الكنيست وإذاعة ريشيت بيت، عملت على استيعاب العديد من أنصار التيار الديني القومي للعمل مراسلين ومقدمي برامج، تحت تأثير زيادة نفوذ القوى اليمينية والدينية في الحكومات المتعاقبة. على سبيل المثال استوعبت قناة "كان" كالمان ليبسكيند ليقدم أحد أهم البرامج الحوارية اليومية، وروعي شارون مراسلاً عسكرياً، وميخائيل شيمش مراسلاً للشؤون الحزبية، وعامحي شتاين مراسلاً سياسياً وجميعهم من التيار الديني. وما ينطبق على سلطة البث ينطبق على إذاعة الجيش، وهي الإذاعة الأكثر شعبية في إسرائيل التي باتت تخصص برامجها لنخب يمينية ودينية، مثل الإعلامي المتطرف إفري جلعاد.
وفي محاولة لنفي التوجهات "اليسارية" اتجهت قنوات التلفزة التجارية والصحف المستقلة لاستيعاب نخب يمينية ودينية، وإحداث تحول على سياسات التحرير فيها.
فعلى الرغم من أنّ باراك رفيد، كان المراسل السياسي الذي جلب أكبر عدد من السوابق الصحافية، فقد قررت إدارة قناة 13 ثاني أهم قنوات التلفزة التجارية قبل عامين، الاستغناء عن خدماته، بسبب توجهاته "اليسارية"، وانتقاداته لرئيس الوزراء السابق نتنياهو، في حين يواصل كل من مقدم البرامج شارون غال ومعلق الشؤون العربية تسفي يحزيكل ذوي التوجهات اليمينية المتطرفة العمل في القناة.
وحرصت القناة 12، وهي الأهم في إسرائيل، على استيعاب ذوي التوجهات اليمينية المتطرفة، مثل عميت سيغل، معلقها للشؤون السياسية، ويئير شراكي معلقها للشؤون الحزبية. وهذا ينطبق أيضاً على الصحف المستقلة، مثل صحيفة يديعوت أحرنوت، ثاني أوسع الصحف انتشاراً وصحيفة معاريف.
وقد استفاد اليمين من حاجة معلقين كبار للعمل، بعدما فقدوا وظائفهم بسبب أنماط سلوك غير لائقة.
فعلى سبيل المثال عندما استغنت صحيفة هآرتس عن خدمات المعلق آريي شافيت، بعد اتهامه باعتداءات جنسية ضد نساء، استوعبته صحيفة ميكور ريشون اليمينية؛ فأحدث انقلاباً على آرائه، وبات يهادن اليمين ويتبنّى مواقف نقدية تجاه قوى "الوسط" و"اليسار".