كيفما جلت في بيروت تجدك أزهار الياسمين وشجيراتها. تراه يكلل شوارعها أينما حللت، خصوصاً الشوارع التراثية وبين البيوت البيروتية الهوية. فهو دائماً ما يكون متدلياً من حائط منزل، أو يظلل مدخلاً.
"في صغرنا كنا ننتظر الياسمين حين يتساقط، لجمعه عن الأرض وشمّه". تتذكر رينيه غالية ذكرياتها مع الياسمين في الجميزة، الحي البيروتي التراثي، الذي لا تزال تعيش فيه منذ ولادتها قبل 56 سنة. فالحي المصنف أثرياً لأن كل بيوته قديمة، لا تزال الزريعة البيتية حاضرة فيه.
تُعرّف غالية بيروت بالمدينة المتعطّرة، فكيفما تسير في أحيائها القديمة تشمّ روائح أشجارها العبقة. إذ ينتشر فيها الشجر الذي له رائحة زكيّة مثل الإكيدنيا، البوصفير، الياسمين، والكولونيا والفتنة.
وما يميّز الياسمين عن غيره، خاصة البلدي أو الشامي، رائحته القوية، لدرجة أن الشخص الذي يعاني من حساسيّة في الشم يمكن أن يضيق تنفسّه.
تربط رينيه غالية بالياسمين علاقة عتيقة وشاعرية، فهو يمثل طفولتها وذكرياتها. فكما تعيدها أغنية معيّنة إلى ذكرى ولحظات عاشتها، عندما تشمّ الياسمين تعيدها الرائحة إلى طفولتها بسرعة.
عادة ما يزرع البيروتيون الياسمينة بجانب البيت لتملأك الرائحة كلما دخلت وخرجت، أو عند مدخل البيت وقرب الشبابيك.
وكانت أمام البيوت أفنية (سطيحات)، حيث تجلس العائلة، يحيطها الياسمين برائحته الأخاذة، وفوضويته التي تضفي شعوراً بحضور الطبيعة التلقائية إلى الفناء.
كذلك، تجتمع مع الياسمين مفردات معمارية في مقدمتها "البحرة" التي تشكّل جزءاً أساسيّاً من عمارة تلك البيوت، وتحيطها أصص زريعة كانت في الأصل عبوات زيت وحليب.
تضحك غالية وهي تعدد "تنكة زيت، تنكة نيدو، تنكة سمنة" يزرعون فيها الياسمين، وكل ما يمكنهم من أنواع النباتات.
طبعاً، من كانت لديه أحواض يزرع فيها، والذي ليست لديه يستخدم التنك. وكل البيوت القديمة تتشابه في أصناف النباتات التي تزرعها.
One of the cutest thing when you walk in Ras Beirut are those little discoveries 💜 #spring #colors #احلى_بيوت_راس_بيروت #طابق_ارضي pic.twitter.com/lLAfHDx6J5
— G. (@GhinaMItani) May 17, 2020
قديماً، لم تكن هناك أبنية عالية. كانت البيوت مؤلفة من طابق أو اثنين. هذه الأبنية التي تتخذ شكل القصر أو الفيلا هي لأناس من طبقة الـ"هاي لايف"، وعادةّ ما كانت لديهم أصص فخار ليزرعوا فيها نباتاتهم. هذه النباتات هي ذاتها المزروعة في البيوت القديمة، أي "بيوت الدراويش" كما تحب أن تسمّيها.
ترى رينيه غالية أن أمزجة الناس اختلفت اليوم وصار لكل واحد ذوقه الشخصي. اعتادوا على الشتل الأجنبي الذي يستورد من الخارج. فلا ترى في البيوت الجديدة النوعيات التي كانت الناس تزرعها في جنيناتها البيروتية الأصيلة.
تؤكّد السيدة أنهم كانوا يزرعون الياسمين الأبيض البلدي، وليس الأصفر الأجنبي الذي لم يكن موجوداً وقتها. ليس من فترة وجيزة تعرّفنا إلى هذا النوع الإيطالي من الزهرة.
المهندس الزراعي سامر سلوم يبرر استخدام الياسمين الإيطالي حديثاً لتناسقه وترتيبه، على عكس الياسمين البلدي الذي يزهر بشكل منتشر وعشوائي.
الياسمين الشامي تبعاً لتصنيفه زراعياً واسمه باللغة اللاتينية Jasminum Officinale ينتمي إلى الفصيلة الزيتونية المعروفة بـ Oleaceae.
“In the soft light that hugs Beirut in the moments before sunset, it’s the smell that comes first. The jasmine is in bloom.” My latest @BBCFooC, inspired by dusk walks in Beirut & a dear friend from Damascus. (From 16.46 but listen to the whole programme) https://t.co/EobaX9CM5x pic.twitter.com/30AiiIHUvj
— Lizzie Porterلِيزي بورتر (@lcmporter) May 23, 2020
تبعاً لخبرته، يقول سلوم إنه لم يعد أهالي بيروت هم الذين يبتاعون زريعتهم. "من لديه حديقة يأتي بمهندس أو شركة لتنسيق الحدائق. لم يعودوا يزرعون أو يختارون الياسمين الشامي".
في بيروت تحديداً، أصبح الياسمين الإيطالي الأكثر شيوعاً. يُستثنى من ذلك من لديه حنين، وكانت لديه في بيته قديماً ياسمينة يحبها بشكل خاص. ما زال بعض الناس يفضلون الياسمين البلدي على الإيطالي لأن رائحته أقوى ويزهر أكثر.
ويرى سلوم أن اللبناني بشكل عام يحب النباتات، والمفضلة لديه الياسمين والغاردينيا والفل والقرنفل، لأنه يحب رائحتها.
والياسمين، بأنواعه وطبيعته، مناسب ليُزرع إلى جانب البيوت وبينها، لأنه ينمو ويعيش في الشمس ونصف الفيء. تمتد الياسمينة أفقياً، لذلك كانوا يربطونها بخيوط حتى تتسلق إلى الأعلى نحو السطح.
يوصي سلوم عندما تُزرع الياسمينة في أصص أن تستوعب حجم الياسمينة وجذورها. فالجنينات في بيروت قليلة وليس هناك الكثير من المساحات الخضراء ليزرع الناس فيها.
لا يحدد سلوم موسماً معيناً للياسمين "لا يمكننا أن نقول أن الياسمين يزهر في الربيع لأن ذلك يعتمد على ارتفاع المنطقة المزروع فيها. ففي الساحل مثلاً يبدأ الربيع باكراً فتزهر أبكر من المناطق الأبرد كالجبل مثلاً".
أما رينيه غالية فما تزال حتى اليوم، عندما تجد زهوراً تساقطت من ياسمين الجيران، تلملمها عن الأرض وتستنشقها مستعيدةً ذكرياتها البيروتية.