المصريون القدماء... موسيقى لثلاثة فصول وسبعة كواكب

31 مارس 2023
كانت بساطة النغم بوابة لا بد أن تعبر منها جميع الألحان (Getty)
+ الخط -

تقول الأسطورة إن أول من اكتشف التناغم الصوتي أو الهارموني في مصر القديمة هو تحوت، فقد تمتع ببصيرة قوية في اكتشاف الأشياء، وكان أول من ابتكر الحروف ووضع الكلمات وسمّى الأشياء وعلّم الناس عبادة الآلهة، كذلك علّمهم فنهم الأسمى؛ الموسيقى.

ابتكر الإله تحوت القيثارة أيضاً، ووضع تصميمها بثلاثة أوتار، محاكياً بذلك فصول السنة الثلاثة وقتها، فجاءت الغليظة لتماثل الشتاء والحادة لتماثل الصيف والوسطى لتماثل الربيع، كما ربط النغمات السبع المنتظمة في النظام الدياتوني (كانوا يسمونه الحركات السبع) بالكواكب السبعة.

تلك المواهب جعلته مقرباً من أوزوريس، الذي أحب الموسيقى والرقص، وازدحم مجلسه دوماً بست عذراوات يُجدن عزف كل أنواع الموسيقى. أما زوجته إيزيس فعدّها المصريون ربة الغناء والرقص، بينما مثل ابنهما حورس إله التوافق والنظام، ومديراً للموسيقى والمشرف على العزف بالآلات الموسيقية.

تدلل هذه الصورة على مكانة الموسيقى لدى المصريين القدماء. أمر رصده أفلاطون وتلقاه بتقدير بالغ، محدثاً عنه في مواضع عدة من كتاباته، إذ يذكر في مؤلفه "القوانين" أن المشرعين الأوائل في مصر القديمة سعوا من أجل إسعاد المجتمع إلى العمل على ضبط مشاعر اللذة والألم وكبح جماحها، ولأجل تحقيق تلك الغاية عمدوا إلى إدخال التنظيم والاعتدال على التعبيرات الإنسانية، سواء في حركة الجسم أو الصوت، وذلك تحقيقاً للتناغم بحياة الفرد والمجتمع كذلك.

من أجل هذا كله، اعتنوا بتقديم أغنيات، إلى جانب رقصات، تضبط نفس الرجل بما يعتمل في جسده من استثارات عنيفة بفعل الشهوات، فوجب أن تعبر الأغنيات والرقصات عن نفس الرجل الشجاع، صاحب العقل القنوع المعتدل، وأن تغرس في نفس الطفل مشاعر الشجاعة والنظام والاعتدال.

كانت بساطة النغم بوابة لا بد أن تعبر منها جميع الألحان، فترك المصريون القدماء، عامدين، كثرة الإيقاعات وتنوعها، ودققوا في اختيار الكلمات إلى حد فرض عقوبات صارمة على أي شاعر تأتي قصائده بعيدة عما أقرته الشرائع من معان نبيلة، كما ابتكروا تمثيلاً صامتاً، يوافق ما ألفوه من أغان ورقصات، يقدمونه داخل المعابد وخارجها في أيام الأعياد وأيام الراحة، في صورة أقرب إلى شكل المسرحية. كذلك، جرى تضمين الأغاني جميع المراحل التعليمية، ليُعد المرء الذي لا يعرف الغناء ولا يجيد الرقص أنه لم يتلق تعليماً جيداً.

في الكتاب الثاني من "القوانين" يسجل أفلاطون أيضاً على لسان أثيني متوجهاً بحديثه إلى آخر:

لاكيدمونيا: هل يمكن أن تُترك القوانين، في دولة ما، أية دولة، تحت رحمة الشعراء؟ فيما يخص أمور التعليم والتسلية والمرح التي تنعم علينا بها ربات الفنون، وهل ندع لهم حق اختيار ما يروق لهم في ما يتصل بالإيقاع والكلمات المغناة، كي يلقنوه بعد ذلك، في الجوقات، إلى شبان ولدوا لمواطنين صالحين، من دون أن يعبأوا ما إن كانوا بذلك ينشئون أولئك الشبان على الفضيلة أو على الرذيلة؟

كلينياس: كلا، بالطبع.

لاكيدمونيا: ومع ذلك فهذا الأمر متروك بالفعل تحت رحمتهم في كل بلدان العالم فيما عدا مصر.

كلينياس: إذن فكيف تسير الأمور في مصر في هذا المجال؟

لاكيدمونيا: بطريقة ستكون مدعاة لدهشتك، فالناس هناك قد عرفوا منذ وقت طويل، فيما يبدو حقيقة ما أقوله لك هنا، حقيقة أن من الواجب أن ينشئوا الشباب منذ وقت مبكر على أكثر الأمور اكتمالاً في مجالي الشكل (حركات الجسم) واللحن، ولهذا السبب، فإنهم بعد أن يختاروا ويحددوا نماذجهم يقومون بعرضها على مشهد ومسمع من الجمهور في المعابد، ولم يُسمح للناس في مصر قط، لا للرسامين ولا لغيرهم من الفنانين الذين يصوغون أشكالاً أو أعمالاً مشابهة، أن يبتدعوا شيئاً أو أن يتزحزحوا قيد أنملة عن شيء كانت قوانين البلاد قد نظمته، وقد حدث هناك الشيء نفسه فيما يتصل بالموسيقى.

ينبهنا أفلاطون كذلك إلى أن الموسيقى لدى المصريين القدماء تغلغلت في أشكال الخطب عن طريق لحنها وتناغمها وإيقاعها، لتنتظم الموسيقى بصفة عامة تحت صورتين من التناغم أو الهارموني (ويقصد به نظام وترتيب النغمات في الرسم التخطيطي لكل مقام لحني) الأول: رقيق ورصين وهادئ، يعبر عن الروح العاقلة في حالة السراء، أما الآخر فصاخب، يعبر عن روح حازمة تواجه ما قد يُلم بها من ضرر أو خطر، بشجاعة، ليطلق المصريون على النوع الأول اسم موسيقى البيونيك، بينما اندرج النوع الثاني تحت اسم موسيقى المديح.

قرن المصريون القدماء دراسة الموسيقى كذلك بالتدريب على الرياضة البدنية (كل أشكال الرقص التي تستهدف إكساب الجسم القوة بطريقة مباشرة)، إذ اعتقدوا أن تعليم الموسيقى يغذي المشاعر الرقيقة لدى الفرد، والاقتصار عليها يكسبه بالتبعية رخاوة في الطبع، كما أن الاكتفاء بالرياضة البدنية يطبع المرء على الخشونة والشراسة، لذلك فرضوا بالتوازي تعليم الموسيقى والتدريب على الرياضة البدنية.

خص المصريون الموسيقى والغناء بغرض آخر أيضاً، فالتمسوا منها إعداد الناس للتعاطي مع القوانين، واعتناق خيرها وصدقها، وكان تلقين القيم والمبادئ للأطفال لا يجري إلا من خلال الأغاني، "فصنعوا أغاني لكل عيد ولكل إله ولكل شهر ولكل سن ولكل جنس ولكل وضع من أوضاع الحياة".

مع ذلك فقواعد التلحين وصناعة الموسيقى كانت تدخل في عداد المعارف المقدسة القاصرة على طبقة الكهان، وإن عُممت تطبيقاتها على المجتمع بأكمله. وكان لقب الموسيقي أو المغني يرفع الكاهن إلى الصف الأول من رجال الكهنوت، ليحمل على الدوام رمزاً موسيقياً تدليلاً على مكانته المتفردة.

أما الآلات الموسيقية فقد اقتصرت على القيثارة ذات الأوتار الثلاثة والدف لضبط إيقاع الراقصات، والجنك وهو صندوق خشبي، يخرج منه عدد من الأوتار بشكل عمودي تكون مثبتة في أعلى الآلة، والكنارة التي التحقت بالآلات الموسيقية المصرية في عهد الدولة الوسطى، وتتكون من ذراعين مقوستين وعصا أعلاهما لشد الأوتار، وتأخذ إحدى الذراعين شكل أوزة أو حصان، والناي القصير والناي الطويل، والبوق للإعلان عن مواعيد الصلوات، ولدعوة الشعب إلى الاجتماع في المناسبات، والنفير الذي يستعمل لدعوة الشعب لبعض الأمور المهمة، واتخذ شكلاً مخروطياً مع انحناء بسيط عند طرفه.

وينبه المتخصصون إلى أن هذه الآلات لم يجر ابتكارها إلا بعد زمن طويل من اكتشاف الغناء. كذلك، نبه عدد من العلماء إلى أن التفكير في صناعة الآلات كان غرضه منح المقام (التون) للصوت أو من أجل إبقاء الصوت على التون الذي شرع فيه المغني، كذلك لتقود الآلة المغني إلى نقاط الارتكاز التي يستطيع عندها الانتقال إلى طبقات ونغمات مختلفة، ولتحديد إيقاع ووزن الشعر أو الرقص أيضاً.

أرجع المصريون ازدهار حضارتهم إلى الأثر البهيج للموسيقى وإلى البلاغة الرخيمة لمشرعهم الأول أوزوريس "الذي تمكن بفعل جمال أغنياته الباعثة على الإقناع أن يجتذبهم وأن يستبقيهم إلى جواره، وأن يعوّدهم على حياة المجتمع، وأن يجعلهم يتذوقون المباهج التي تجود بها الحياة الاجتماعية"، لهذا عدّ المصريون الموسيقى هبة سماوية يضبطها التناغم ويهيمن عليها التناسق لتمسي صورة مثلى لكل ما هو خير ويوافق الصالح العام.

المساهمون