قد يكون العراق في صدارة الدول العربية لجهة عدد وسائل الإعلام المحلية الموجودة على أراضيه، مع وجود عشرات المحطات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية والإذاعات، إلى جانب المنصات الممولة على مواقع التواصل الاجتماعي، من الأحزاب النافذة في البلاد. ولم تكتف بعض الجهات السياسية والفصائل المسلحة بتأسيس محطة فضائية واحدة لها، بل ذهبت نحو تأسيس أكثر من قناة ووسيلة إعلامية، ما أدى إلى طفرة في المؤسسات الحزبية.
وفي إحصاء جديد، صدر عن مؤسسة "بوابة العراق للبيانات الرقمية"، وهي منظمة محلية غير ربحية، ظهر أنه توجد "57 محطة فضائية في العراق، و138 إذاعة، إضافة إلى 65 مكتبا لمؤسسات إعلامية، منها وكالات أنباء وشركات إنتاج محتوى إعلامي". وأشارت الدراسة إلى أن "برامج الحوار السياسي هي الأعلى مشاهدة مقارنة بمشاهدات البرامج المنوعة والثقافية".
وتتراوح الكلفة المالية لنفقات المحطة الفضائية الواحدة ما بين مليون ونصف المليون دولار سنوياً، فيما تصل ميزانيات بعضها إلى 5 ملايين دولار، عدا النفقات الضخمة التي يتم تخصيصها لترويج مقاطع فيديو ومنشورات على منصات فيسبوك وتويتر وتليغرام، فيما دشنت غالبية تلك القنوات مكاتب لها في العاصمة اللبنانية بيروت، إلى جانب مكاتبها في بغداد، إذ استفادت من انخفاض كلف الإنتاج وخبرات اللبنانيين في مجال الفيديو والصورة والترويج الإعلامي.
في هذا السياق، قال عضو نقابة الصحافيين العراقيين محمد ياسين، إن "أعداد وسائل الإعلام المنشورة في الدراسة الأخيرة، أقل من الأعداد الموجودة فعلاً، فإن وكالات الأنباء والإعلام المسجلة في العراق تتجاوز 500 موقع، وجميعها تتبع جهات سياسية معروفة، وأخرى مملوكة لأشخاص محددين ونواب ووزراء". مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "كل مسؤول تقريباً يملك موقعا أو منصة، ينشر نشاطاته ويدافع عنه ويقوم بالهجوم على خصومه، ولعل الوزير الذي لا يملك موقعا إلكترونياً يشغل مساحة الدفاع بالظل عنه، يشترك إلى جانب سياسي آخر في تأسيس وكالات ومنصات على مواقع التواصل الاجتماعي".
وأضاف ياسين، أن "نقابة الصحافيين العراقيين تواصل الموافقة وتسجيل المواقع والمحطات الجديدة، بعد استكمال الإجراءات الورقية، وأن مهمة متابعة المحتوى الإعلامي لا تندرج ضمن مهام النقابة، بل تتبع هيئة الإعلام والاتصالات"، مشيراً إلى أن "معظم المحتوى الإعلامي لهذه الوسائل الإعلامية لا يتضمن أي تجاوزات، لكنه محتوى حزبي يهدف إلى تعبئة الجماهير باتجاه خط سياسي يمثل الأحزاب الحاكمة، ولا يدعم وجهة النظر الشعبية الرافضة للكيانات المستمرة في تغولها في السلطة".
من جهته، بيَّن النائب المستقل، محمد عنوز، أن "زحام المحطات الفضائية وكثرة الأحزاب والمواقف السياسية التي تصدر عن وسائل الإعلام تساهم غالباً بزيادة تعقيدات المشهد السياسي، رغم أنها من المفترض أن تكون جزءاً من الحلول للمشاكل، لكنها تتحول في أحيان كثيرة إلى جزء من الأزمة"، معتبراً في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "هناك حاجة ملحة إلى تنظيم عمل هذه الوسائل وزيادة الرقابة عليها، لا سيما وأن بعضها تعمل على تغذية خطاب الكراهية والفرقة بين أبناء الشعب العراقي، أو أنها تمارس أدوارا شريرة للنيل من المحتجين والأصوات الوطنية العراقية، وهذا ينطبق على منصات موجود حالياً على مواقع التواصل الاجتماعية ومنها قنوات على تطبيق (تليغرام)".
ولفت عنوز إلى أن "بعض وسائل الإعلام تعمل على إسقاط سياسيين معينين، وأن هدف المؤسسين لها هو مواجهة بعض الشخصيات عبر نشر الأخبار الزائفة عنها، أو عن أحزابها، وهذه الأساليب لا تنسجم مع طبيعة الأهداف الحقيقية لإصلاح الأوضاع العراقية"، مشيراً إلى أن "هناك صحافيين يشتغلون في هذا وسط الإعلام الأصفر، وهؤلاء يساهمون في خراب البلاد".
من جانبه، أوضح الناشط السياسي العراقي، يسار عبد اللطيف أن "هناك فوضى إعلامية في العراق بسبب التمويل السياسي للإعلام، حتى باتت معظم محطات التلفزيون كأنها مكاتب ناطقة باسم الأحزاب، والتراخي في محاسبتها مكنها من التجاوز والتنكيل بالناشطين العراقيين والمتظاهرين والأحزاب الناشئة، وأن السلطات لا تكلف نفسها حتى بالاستفسار عن سؤال هذه المؤسسات عن مصادر تمويلها"، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "معظم الإعلاميين والصحافيين في هذه المؤسسات يعرفون أن مصادر التمويل الحزبية والسياسية هي مشاريع لغسل أموالها الضخمة التي حصلت عليها خلال السنوات الماضية من المشاريع والصفقات والمناقصات والعقود من الدولة العراقية".
بدوره، رأى أستاذ الإعلام بجامعة "دجلة" ببغداد أيوب شكرجي، أن "الإعلام العراقي يعاني مشاكل كبيرة في نوعية المواد المنتجة والمحتوى الذي يتم عرضه دون مراجعات وتدقيق مهني، ويمكن الاعتراف بأن المال السياسي هو الذي أفسد الإعلام، كما أن الأشخاص غير المختصين الذين تجلبهم الأحزاب السياسية من خارج المهنة وتوليهم إدارة المؤسسات، وبعضهم من رجال الدين الذين ينتمون لهذه الأحزاب، أسهموا بشكلٍ كبير في خراب المهنة بالكامل"، مستكملاً حديثه مع "العربي الجديد"، بأن "التراجع المهني في المحتوى، وتحويل وسائل الإعلام إلى أدوات خطاب حزبي، رافقته ظاهرة لم تتراجع، هي الجيوش الإلكترونية للترويج للأكاذيب السياسية والمعارك بين الأحزاب".
وأشار شكرجي، إلى أن "المشاريع الإعلامية الموجودة حالياً في العراق، لا يمكن اعتبارها مؤسسات إعلامية، لأنها تقوم على استثمار المال السياسي لصناعة محتوى إعلامي لواجهات حزبية".