"الفنّ ميّت بالنسبة إليّ"، تقول الممثلة الأفغانية لينا علم. تُضيف، في حديثها لـ"العربي الجديد": "إذا حرمت فناناً من الحقّ في التعبير، فالحقيقة ميتة. إذا انتزعت حقّ التعبير منّي، فلن تُروى الحقيقة، وستموت".
تقيم علم (43 عاماً) حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، وتواصل رفع الصوت من هناك لمساعدة شعبها، وتحديداً الفنانين منهم، الذين يحاولون مغادرة البلاد، بعد سيطرة حركة "طالبان" عليها، ودخولها إلى العاصمة كابول في 15 أغسطس/ آب 2021.
رغم الصعاب كلّها، ازدهرت السينما الأفغانية ببطء خلال العقد الماضي، وبرز فيها سينمائيون وسينمائيات تركوا بصمتهم. مع عودة الفنانين إلى البلاد، بعد استبعاد "طالبان" من السلطة عام 2001، بدأت الأفلام الأفغانية تحظى بشهرة في المهرجانات الدولية، بجهود مخرجين عصاميين تحدّوا نقص الموارد المادية والتهديدات الأمنية. يشير الموقع الإخباري المتخصّص "ديدلاين هوليوود" إلى أنّ تلك الفترة شهدت أيضاً انتشار الأفلام المقرصنة إلى حد ما في المحافظات الريفية، حيث معدلات الأمية مرتفعة. أصبح فيلم "تيتانيك" (1997)، لجيمس كاميرون، متوفراً لدى معظم الأسر، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في كابول والمناطق الأكثر عزلة، في ظاهرة عرفت حينها بـ"حمّى تيتانيك".
لكنّ هذا التقدّم وصل إلى طريق مسدود مع عودة الحركة إلى السلطة. عندما سيطرت "طالبان" على غالبية البلاد عام 1996، أغلقت فوراً، أو قصفت، دور السينما، وحطّم عناصرها أجهزة التلفزيون، وحظروا الموسيقى. يبدو أنّ الحركة لا تنوي اعتماد نهج مختلف الآن، رغم زعمها أنّها أًصبحت أكثر انفتاحاً واعتدالاً، وأنّها ستحترم حقوق النساء، إذ سئل المتحدّث باسمها ذبيح الله مجاهد، الأسبوع الماضي، عمّا إذا كان سيُسمح للفنانين بمواصلة عملهم، فأجاب بأنه سيتعين عليهم تغيير مهنتهم إذا تعارضت مع الشريعة الإسلامية. كما أنّ الإدارات المحلية التابعة للحركة في بعض الأقاليم أبلغت وسائل الإعلام رسمياً أنّ صوت المرأة محظور، وأنّ بثّ الموسيقى ممنوع. وتتوالى التقارير الإخبارية عن منع النساء من العمل، وعن استهداف من يعملون في مجال الفن.
في نهاية يوليو/ تموز الماضي، قتل عناصر من "طالبان" الكوميدي الأفغاني نظر محمد، وعلّقوا جثته على شجرة في مدينة قندهار. اعترفت الحركة بقتله، وبرّرت الأمر بأنّه كان يعمل في صفوف قوات الشرطة المحلية. يوم الجمعة الماضي، قتل أحد مسلحي "طالبان" مطرباً شعبياً أفغانياً في ولاية جبلية مضطربة في ظروف غامضة، وفق ما أعلنت عائلته يوم الأحد.
تقول لينا علم لـ"العربي الجديد": "من الواضح أنّه لن تكون هناك سينما في أفغانستان بعد الآن، ولن يسمح إطلاقاً للممثلات بالعمل. الحركة تعادي حرية التعبير، فكيف يمكن للفنان أن يعمل في ظلّ ظروف كهذه؟ الأمر كان صعباً أصلاً، قبل عودة (طالبان) إلى السلطة، في مجتمع محافظ كالمجتمع الأفغاني. لكننا بقينا في البلاد، وواصلنا ما نقوم به. من المحزن أن تذهب جهود عشرين عاماً سدىً".
تؤكّد: "من خارج البلاد، سأواصل العمل على القضايا نفسها، فمن الداخل، الأمر مستحيل".
علم، وهي ممثلة سينمائية ومسرحية وتلفزيونية، شاركت في أعمال عدة ركزت تحديداً على زواج القاصرات والمساواة الجندرية وحقوق المرأة، بينها "طفل كابول" (برماك أكرم، 2008) حول منقبة تترك طفلها البالغ من العمر 6 أشهر في سيارة أجرة، ليبدأ السائق بالبحث عنها، مجسداً في رحلته مآسي المرأة والطفل في المجتمع الأفغاني، وتحديداً في كابول، بعد الحرب الأهلية؛ و"رسالة إلى الرئيس" (رؤيا سادات، 2017) عن ثريا (علم) التي تترأس قسم الجريمة في كابول، لكنّها تُسجن ويُحكم عليها بالإعدام، بعد قتل زوجها، الذي كان يسيء معاملتها، دفاعاً عن النفس. رؤيا سادات تعد أولى مخرجة امرأة في أفغانستان، واختير فيلمها هذا، وهو الروائي الثاني لها، لتمثيل بلادها في منافسات جوائز "أوسكار" عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 2018.
عام 2015، كانت علم عضواً في "لجنة العدالة من أجل فرخنده". فرخنده كانت في الـ27 من العمر وتدرس الشريعة الإسلامية حين قتلت بوحشية على يد مجموعة من الرجال قرب ضريح "شاه دوشمشیره" في كابول، بعد اتهامها زوراً بحرق نسخة من القرآن، وصوّرها كثيرون بهواتفهم المحمولة، وتبادلوا مقاطعها على شبكات التواصل الاجتماعي. أكّدت الشرطة لاحقاً أنّ مزاعم حرق القرآن ليست إلّا كذباً، وأنّ فرخنده دخلت في جدلٍ مع رجل كان يبيع أحجبة وتمائم رأت أنّها تعارض التعاليم الإسلامية.
جسدت علم دور فرخنده في إعادة تمثيل الجريمة أقيمت في الضريح نفسه بعد مرور أكثر من شهر على الجريمة، من دون توجيه أي اتهامات رسمية. بعد ساعات قليلة من إعادة التمثيل، أعلنت السلطات عن توجيه تهم إلى 49 مشتبهاً بهم.
كما كانت علم بطلة مسلسل "شيرين"، وهو أول دراما تلفزيونية من نوعها في أفغانستان توصف بـ "النسوية". أثناء تصوير "شيرين"، أصدر المُلا فتوى ضده، فهوجم فريق العمل بقنبلتين يدويتين في كابول. وأثناء تصويرها فيلمها القصير "قمر"، هُدِّدت والطاقم بالقتل.
علم ليست وحدها في خوفها على مصير السينما الأفغانية وفي نظرتها التشاؤمية. حين سألت "العربي الجديد" المخرجة الأفغانية ديانا ثاقب جمال عمّا إذا كانت تريد التحدّث عن السينمائيين في أفغانستان، وتحديداً النساء منهم، بعد سيطرة حركة "طالبان" على البلاد، أجابت باختصار: "أنا شديدة الغضب والحزن. أعتذر. لكنّي لا أعرف ماذا أقول. هل بقي ما يمكن الحديث عنه؟ لست متأكدة. أنا محطّمة. لكنّي أحاول أنْ ألملم شتات نفسي". ديانا ثاقب جمال في كندا منذ أشهر، لكنّها حجزت تذكرتها للعودة إلى كابول. وحين تواصلت معها "العربي الجديد" أكّدت أنّها تحاول مساعدة أصدقاء وزملاء لها على مغادرة البلاد.
فيلمها "رقية" عرض في قسم "آفاق" في "مهرجان البندقية السينمائي الدولي" عام 2019. وقبل صيفين فقط، افتتحت سينما "آي خانم" التي تضمّ 80 مقعداً، واستضافت مهرجاناً افتتاحياً عرض فيه نحو مائة فيلم. حضرت النساء العروض، وبكت الأكبر سناً منهنّ، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يرتدن فيها صالة سينمائية منذ عقود.
موجة الهروب الجماعي من أفغانستان شملت المخرجة السينمائية الأفغانية صحراء كريمي، وهي أول امرأة ترأس منظمة الأفلام الرسمية في بلادها. وصلت كريمي (36 عاماً) إلى أوكرانيا في 17 أغسطس/ آب الماضي، تاركة وراءها كل ما تملك. وستسافر إلى "مهرجان البندقية السينمائي الدولي" يوم السبت المقبل، للتحدّث عن محنة بلدها والسينمائيين فيه، بعد سيطرة "طالبان".
في حديثها أخيراً لموقع مجلة "ذا هوليوود ريبوتر"، من كييف، قالت إنّ إحدى الممثلات في فيلمها "حوا، مريم، عايشه" (2019)، كانت متّجهة إلى مطار كابول، عندما هزّه تفجير مزدوج يوم الخميس الماضي. أضافت كريمي أنّها تنظر في المزيد من الوسائل لمساعدة ممثلتها وأعضاء آخرين من طاقم الفيلم على الهروب، لكنها رفضت مناقشة التفاصيل خوفاً على سلامتهم. ووصفت ما يحصل في بلادها بـ"الفوضى المطلقة".
شاهربانو سادات أيضاً فرّت من البلاد. ووصلت المخرجة، التي فاز فيلمها الروائي الأول "الذئب والأغنام" بجائزة من "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" عام 2016، برفقة أفراد من عائلتها، إلى العاصمة الفرنسية باريس، الأسبوع الماضي. وقالت في مقابلة مع وكالة "رويترز": "كنتُ محظوظة، لكنْ هذه ليست حال كثيرين. إنّهم لا يتحدّثون الإنكليزية، وليسوا صنّاع أفلام، وليس لديهم أي أصدقاء في الخارج، وحياتهم في خطر." ولدت سادات في إيران، وانتقلت إلى أفغانستان في ديسمبر/ كانون الأول 2001، وكانت تحضر فيلماً كوميدياً رومانسياً قبل فرارها.
أما المخرجة رؤيا حيدري، فنشرت صورة لها من مطار كابول الأسبوع الماضي، وغرّدت: "تركت منزلي وحياتي كلها ورائي، كي لا أخسر صوتي. مرة أخرى، أنا هاربة من بلدي. مرة أخرى، عليّ أن أبدأ من الصفر. لم آخذ معي عبر المحيط إلا كاميراتي وروحاً ميتة".
إلى ذلك، وقعت مجموعة من 350 من فنانين ومخرجين وفناني أداء وكتّاب على رسالة مفتوحة إلى حكومة الولايات المتحدة، تطالبها بمساعدة الأفغان الفارين من البلاد. دعت الرسالة، التي صاغتها مجموعة "الفنون من أجل أفغانستان" حكومة الولايات المتحدة إلى "بذل كل ما في وسعها" للمساعدة في "تسهيل مغادرة الأفغان المعرّضين للخطر من أفغانستان، وضمّ الفنانين والمخرجين وفناني الأداء والكتّاب في هذه الفئة".
وقالت فيها المخرجة مريم غني (ابنة الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني): "نحن قلقون للغاية على أصدقائنا وزملائنا وأقراننا في أفغانستان، ولا نريد أن ننساهم. انزعجنا بشدّة من استبعاد الفنانين والعاملين في مجال الثقافة من فئات وزارة الخارجية للأفغان المعرّضين للخطر، الذين أعطوا الأولوية للإجلاء، رغم تاريخ (طالبان) الطويل والمعروف في استهداف الفن والفنانين والتراث الثقافي".
من الموقّعين على البيان أيضاً: الفنانة والكاتبة الأميركية كوكو فوسكو، والكاتب والمصوّر الفوتوغرافي الأميركي تيجو كول، والروائي الفيتنامي ـ الأميركي فاييت ثانه نغويين، والروائية لين تيلمان، والروائي جوشوا كوهين، والعشرات غيرهم.