استمع إلى الملخص
- غريكو يواجه مستقبلًا غامضًا مع تصاعد المطالبات بإقالته من قبل حزب ليغا اليميني، وسط دفاع من علماء آثار ومؤسسات محلية ضد محاولات اليمين للسيطرة على القطاع الثقافي.
- تقارير تشير إلى احتمال تعيين زاهي حواس، وزير الآثار المصري السابق، خلفًا لغريكو، مما يثير تخوفات من دعوات لإعادة الآثار المصرية إلى بلادها ويجدد الجدل حول سياسات المتحف.
عشية احتفال المتحف المصري في تورينو الإيطالية بمئويته الثانية، كأوّل متحف خصص للآثار المصرية في العالم، وجد نفسه من جديد في مرمى نيران الأحزاب اليمينية، التي زادت مقاعدها في البرلمانات الأوروبية، ومنها الإيطالية، بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
من جديد، بدأ الهجوم ضد عالم المصريات ومدير المتحف كريستيان غريكو، مع مطالبات بإقالته من منصبه على خلفية جدل قديم وضعه مرّتين في مواجهة اليمين المتطرف. ففي 2018، وضمن حملة واسعة للمتحف تحت شعار "محظوظ من يتحدّث العربية"، قدم المتحف عرضاً مخفّضاً لزواره من أصول مصرية لفترة محدودة، ما أدى إلى جدل عنيف مع جورجيا ميلوني، التي كانت آنذاك سياسية معارضة، قبل أن تصبح اليوم رئيسة وزراء إيطاليا. هاجمت جيورجيا ميلوني وقتها مدير المتحف كريستيان غريكو، معتبرة حملته المخصصة للمصريين "تمييزاً ضد المسيحيين" و"تفريقاً بين الجمهور على أسس عرقية ودينية"، وهو ما نفاه غريكو حينها قائلاً إن "من حق الشعوب أن تشاهد تراثها من دون أن تضطر إلى دفع الكلفة نفسها كغيرها"، مذكّراً إياها بالعمل الاجتماعي للمتحف وبالخدمات الأخرى التي يتيحها لزواره، كما تطرق إلى حقيقة أن مصر "فيها أيضاً ملايين المسيحيين"، وقد انتشر فيديو نقاشهما أمام المتحف على نطاق واسع آنذاك.
الحرب على مدير المتحف المصري في تورينو
هدأت العاصفة قليلاً، لتهب من جديد في سبتمبر/ أيلول 2023، ولكن ليس من جهة حزب جيورجيا ميلوني "إخوة إيطاليا" هذه المرة، بل من حزب ليغا اليميني الشعبوي الذي استغل الحادثة مرة أخرى لشن هجوم جديد ضد غريكو، واتهم نائب رئيس حزب الليغا مدير المتحف بأنه "يساري وعنصري"، وطالب برحيله.
يشغل عالم المصريات الإيطالي كريستيان غريكو منصب مدير المتحف المصري في تورينو منذ عام 2014. ومع استمرار المطالبات الحكومية التي نادت باستبداله بعد التغيير الوزاري المرتقب في الحكومة الإيطالية، وحيث ستنتهي ولايته الثانية في مايو/ أيار 2025، ذكرت صحيفة لا ستامبا الإيطالية، في 12 يونيو/ حزيران الحالي، أن احتمالات بقاء غريكو في منصبه ضعيفة جدّاً، خاصة بعد الانتخابات الإقليمية في بيدمونت التي فاز بها حزب "فورزا إيطاليا" (يمين الوسط) بزعامة ألبرتو سيريو الذي من المرجح أن يختار ماوريتسيو ماروني من حزب "إخوة إيطاليا" مستشاراً للثقافة، وهو الذي دعا إلى إقالة كريستيان غريكو بنفسه قبل أيام حين قال: "لن أرشحه لدورة رابعة من رئاسته للمتحف. لديه طريقة إدارية غير مألوفة، وأعتقد أن هناك أشخاصاً أكثر كفاءة منه".
تبدو تصريحات ماروني الحادة ضد غريكو كانتقام متأخر من صلابة مدير المتحف ضد الحملة اليمينية التي واجهها في 2018، خاصة بعدما تصدى العشرات من علماء الآثار الدوليين ومجلس إدارة المتحف المصري في تورينو ولجنته العلمية، وعشرات المؤسسات المحلية والسياسيين للدفاع عن مدير المتحف، كما أصدر 92 مثقفاً وسياسياً من إيطاليا وجميع أنحاء العالم بياناً يدافعون فيه عن غريكو ويعلنون مساندتهم له ضد "الحملة المسعورة لأحزاب اليمين التي تهدف إلى السيطرة على القطاع الثقافي اليساري في إيطاليا"، وفقاً لما جاء في البيان.
هل يكون زاهي حواس خلفاً لكريستيان غريكو؟
صحيفة لا ستامبا الإيطالية أيضاً فجّرت مفاجأة أخرى في 15 يونيو، إذ ذكرت أن اسم زاهي حواس وزير الآثار المصري السابق والأمين العام الحالي للمجلس الأعلى للآثار المصرية، ضمن الأسماء التي يدرسها وزير الثقافة الإيطالي جينارو سانغوليانو لرئاسة المتحف المصري في تورينو خلفاً لكريستيان غريكو. وفي اتصال للصحيفة مع زاهي حواس في القاهرة، أبدى سعادته واستعداده لأن يكون "أحد المساهمين" في إدارة المتحف المصري في تورينو "الذي يعتبر أفضل متحف للآثار المصرية في العالم خارج مصر"، وفقاً لتعبيره. وعلى الرغم من الحماسة التي أبداها حواس في حواره المرحب مع "لا ستامبا"، إلا أن الصحيفة أبدت شكوكها في إمكانية الاستعانة به مديراً للمتحف، مشيرة إلى أن "هناك تخوفاً من أن يكون حواس أحد دعاة إعادة الآثار المصرية الموجودة في المتحف إلى بلاده"، وأضافت الصحيفة: "حواس ليس المرشح المثالي لمتحف مليء بالقطع الأثرية المصرية، حتى لو كان أغلبها قد وصل إلى المتحف عبر طرق شرعية وقانونية".
المتحف المصري في تورينو... عودة إلى القرن السابع عشر
يعتبر المتحف المصري في تورينو أول متحف خصص على الإطلاق للآثار المصرية في العالم، إذ أنشئ عام 1824، وهو لذلك ثاني أهم المتاحف العالمية المخصصة للآثار المصرية بعد متحف القاهرة، محتلاً المرتبة الأولى في تصنيفه بين المتاحف الإيطالية، والتاسع أوروبياً. ترجع علاقة مدينة تورينو الإيطالية بالآثار المصرية إلى منتصف القرن السابع عشر، ويشير العديد من المصادر إلى أن كارل إيمانول الأول، ملك سافوي، اشترى مذبحاً للقرابين من البرونز المزخرف برسومات فرعونية عام 1630، كان مخصّصاً لمعبد إيزيس في روما واسمه بالإيطالية Mensa Isiaca. وعام 1724، جمع الملك فيتوريو أماديو الثاني مجموعة من الآثار وضعها في مبنى ضخم كان في الأصل مدرسة يسوعية، والذي صار ضمن مباني الجامعة في مدينة تورينو، ثم في ما بعد مبنى المتحف المصري الحالي.
وبفضل إعجابه الشديد بالمذبح البرونزي الخاص بمعبد إيزيس في روما، قرّر ملك سردينيا كارلو إيمانول الثالث تكليف عالم النبات والأثري الإيطالي فيتاليانو دوناتي بالسفر إلى مصر ليجمع ما يستطيع من الآثار المصرية، وبالفعل يسافر دوناتي إلى مصر عام 1753، ليقضي فيها أربعة أعوام كاملة. عام 1759، وتحت هيمنة الهوس الذي أثارته الحملة الفرنسية في عقول ومخيلات الأوروبيين عن الكنوز المصرية القديمة، عاد فيتالينو دوناتي من مصر إلى تورينو في موكب مهيب من العربات التي تجرها أحصنة محملة بـ300 قطعة أثرية جلبها من مدينتي الكرنك وقفط جنوب مصر، تنوعت بين التماثيل والمنحوتات والمومياوات والحلي الذهبية المصرية، وهي المجموعة التي شكلت النواة الأولى لمتحف تورينو.
خلال القرن التاسع عشر، حصل المتحف على عدد من المجموعات الأثرية الصغيرة من جامعي التحف الخاصة، أو من خلال التبادل مع المتاحف الأخرى، ولكن الجزء الأكبر من محتوياته تعود إلى الفترة بين عامي 1903 و1937، حين جلبت الحفريات الأثرية التي أجراها إرنستو شياباريلي (مدير المتحف آنذاك) ثم جوليو فارينا في مصر نحو 30 ألف قطعة أثرية جاءت أغلبها من أسيوط والأقصر، ومن بينها مقبرتا خا وميريت اللتان اكتشفهما شيباريلي، وكذلك مجموعة تماثيل ملوك الدولة الحديثة ومعبد تحتمس الثالث وبردية تورينو الشهيرة، كما يضم المتحف المخطوط الملكي الذي يعتبر أهم مصادر المعلومات حول تسلسل العائلات الحاكمة في مصر القديمة، إلى جانب تمثالين نادرين للإله إيزيس وآخر لرمسيس الثاني، ومعبد إليسيا من أواخر القطع التي أضيفت للمتحف، بإهداء من الحكومة المصرية مقابل تعاون إيطاليا في حملة منظمة يونسكو الدولية لإنقاذ آثار النوبة (1960-1980).