اللهجات في الأغنية العربية... مزيج أوسع من كلمة ولحن

11 فبراير 2022
أدّت الراحلة صباح كثيراً من الأغاني باللهجة المصرية (فرانس برس)
+ الخط -

ليس من الغريب على المغنين العرب، اختيارهم لهجات متنوعة مختلفة عن لهجتهم الأم. هذا المنحى قد يبدو مهماً جداً في عالم الغناء، سواء على الصعيد الاحترافي، أو على الصعيد الترويجي.
يكتسب المغنون حضورهم في العالم العربي بفعل عوامل عدة، أهمها الصوت والكاريزما والأداء. أما عامل اللغة – إذا أمكن القول – فهو عامل مستحدث، نشأ بظروف فنية ثورية، بعد كسر القالب الكلاسيكي لشكل الأغنية العربية مطلع السبعينيات. ولعل من أوائل المغنين الذين أقحموا لهجات عربية، مختلفة عن المسار الأساسي للهجة الفنان المحلية، الفنانة اللبنانية الراحلة صباح. نجحت الشحرورة في تقديم صبغة غنائية خاصة بها، تنوعت موادها بين اللهجة اللبنانية والمصرية، بحكم عملها ممثلةً في السينما المصرية، التي أتاحت لها مزج التمثيل بالغناء، وتفجير موهبتها الغنائية باللهجة المصرية مع الحفاظ على تقديم أغنيات بلهجتها الأم.


لم يكن التوفيق بين لهجة الفنان الأم واللهجات الأخرى عاملاً تطويرياً، بقدر ما هو عامل تواصلي، يفتح لأفق سماعي ومذاقي أوسع. فاختيارات المغني كانت محصورةً في الكلمة واللحن، ومفرزات الأعمال ونتائجها مرهونة بذوق المستمع ومطلب السوق. إلا أن شأناً خاصاً بثقافة الشعوب العربية، فتح لتجارب الغناء المتنوعة، بعد أن كانت عملية التواصل برمتها مرهونة باللغة الغنائية السائدة والتقليدية (انتشار خاص بنجاح الأغنية، لا اللهجة).
الانفتاح الموسيقي على الثقافات الغربية والأجنبية، ثم انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فرضا حيثيات جديدة، ساعدت على تقريب المسافات الغنائية، وإخراجها من عزلة الصوت الواحد، وفتح حنجرة المغني على نغمات لفظية مختلفة. هذا كان من شأنه توجيه المستمعين نحو مطربين وفنانين آخرين مختلفين عن الذين اعتادوهم، ومتابعة ثقافات غنائية متنوعة يطرحها فنانون محليون، كانت على رأسها اللهجة المصرية واللبنانية والسورية. وأما عن الخليجية، فتسربت أصداؤها مع فنانين أمثال راشد الماجد وأحلام وعبد المجيد عبد الله، وغيرهم ممن ضخهم الإعلام الخليجي. نخصّ بالذكر روتانا وقنوات إم بي سي، اللتين قوضتا حركة البرامج الترفيهية والفنية تدريجاً، حتى باتت رقبة كثير من الفنانين العرب تحت قبضتها، ما ساهم في انتشار اللهجة الخليجية وقبولها جماهيرياً بأصوات غير خليجية، كالفنانة السورية أصالة.


لاحقاً، مع بداية الألفية الثالثة، استطاع عدد من نجوم الخليج الخروج عن نمطية الأغنية المحلية، وتقديم أغنيات بلهجات بيضاء، كتلك التي قدمها سعود أبو سلطان في أغنية "سر العذاب" باللهجة اللبنانية، وحسين الجسمي الذي استطاع تقديم حلة من الأغنيات العربية الناجحة بلهجات متنوعة، بين مصرية ولبنانية، وهي حالة نادرة قلما يستطيع فنان خليجي أن يحافظ على هذا المنسوب من النجاح لأكثر من عقد ونصف من الزمن.


التوفيق بين اللهجة المحلية والأخرى العربية، ليس مدعاة لنجاح مستمر. فكما قلنا، هي لغة تواصل بين الفنان والمستمع، لفرض دائرة فنية متجانسة نوعاً ما. الهدف تمثيل الذوق المحلي، والطموح كسب المحيط العربي، وتوسيع قاعدة الجماهير هي الركيزة الأساسية. إلا أن بعض النجوم، رغم محاولاتهم لطرح أعمال بهويات مختلفة، لا يبلغون النتائج المرجوة. كمحاولة الفنان المصري هاني شاكر حين قدم أغنية "كيف بتنسى" باللهجة اللبنانية سنة 2020. ولعلنا نمرّ أيضاً بالمغني الفلسطيني محمد عساف، الذي أخذ في الآونة الأخيرة يطرح أغنيات باللهجة الخليجية، ولكنها جميعها لم ترفع من سلم الدرجات الذي يحاول عساف الصعود عليه، منذ أن غرق في قالب الأغنية الفلسطينية الفلكلورية، إلا أن هذا التنويع هو في ذاته يبرر المنفعة من تغيير الهوية الغنائية ومقاصدها.

العبرة في تغيير النمط الغنائي للفنان، سواء من حيث اللهجة أو حتى الأسلوب، ليست مرتبطة ارتباطاً جذرياً بالمزاج العربي. فالسوق الفني له محددات، قد تبدو ثابتة، ولكن لفترة من الزمن. فالمستقبل الموسيقي رهن التجارب والتحديثات، واللهجة العربية بتنوع مفرداتها وأشكالها، عملية انتقائها مشروطة بالتنويع والتسويق أكثر مما هي مشروطة بالتذوق والمزاج.

المساهمون