استمع إلى الملخص
- **ترحيب دولي وموهبة واعدة:** تم اختيار الفيلم في قسم "نظرة ما" في مهرجان "كانّ" السينمائي لعام 2024، مما يعكس الترحيب الكبير به كأول فيلم صومالي يُصوَّر بشروط سينمائية في البلد، ويبرز موهبة المخرج محمد هاراوي.
- **تأملات اجتماعية وسياسية:** يعكس الفيلم حالة الاغتراب في الصومال ويبرز أهمية استرشاد المرأة للخروج من الأزمات، ويطرح أسئلة حول مستقبل السينما في الصومال، مشيراً إلى أن الصمود والتكافل العائلي يمكن أن يتجاوزوا الصعوبات.
ينتمي "القرية المجاورة للجنة" (2024)، لمحمد هاراوي، إلى فئة أفلام تنتهج اقتصاداً سردياً شديداً، ولا تفصح عن المفاتيح الأساسية للحكي، إلّا في الفصل الأخير، لكنّها تقول ـ بطريقة مفارقة، وعبر جماليات التأمّل في الأجواء، والشعرية البصرية القوية التي تكتنفه ـ أضعاف ما يُمكن أنْ يحمله طرح برهاني لفيلم اعتيادي، عن شرط العيش في بلد كالصومال، موبوء بحرب أهلية منذ عقود.
لعلّ انتقاءه في "نظرة ما"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، والترحيب الذي لاقاه بوصفه أول فيلم صومالي يُصوَّر في البلد بشروط سينمائية، يؤكّدان موهبة واعدة لمخرجه هاراوي (المعروف بـ"مو" هاراوي) منذ أشرطته القصيرة، كـ"الحياة في القرن الإفريقي" (2020)، خاصة "هل سيأتي والدايَ ليزوراني؟" (2022)، الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة الـ45 (27 يناير/كانون الثاني ـ3 فبراير/شباط 2023) لـ"المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران"، أرفع تظاهرة متخصّصة بالفيلم القصير.
يركّز المخرج وكاتب السيناريو، منذ البداية، على عائلة مفكّكة، وبديلة إلى حدّ ما، بحكم غياب الأم غير المُبرَّر سردياً قبل الفصل الأخير. عائلة تعيش في قرية صومالية نائية، تتكوّن من مَمَرْغراد (أحمد علي فرح)، رجل خمسيني يشتغل في مهن صغيرة (حافر قبور، سائق شاحنة تهريب أسلحة لفائدة الإسلاميين، إلخ.)، وطفله سيغال (أحمد محمد سَلِبان، ينبغي هنا التسطير على "طفل" بدل "ابن")، وأخت الأب أراويلو (أناب أحمد إبراهيم)، التي عادت مُكرهةً لتعيش معه في منزله الصغير، بعد خلافها مع زوجها. قبل ذلك، ينطلق الفيلم بصُور إخبارية، تحاكي التناول الإعلامي المسكوك لملف صومالي شائك، حول درون أميركي يهاجم متمرّدين إسلاميين، فيُقتل أحد أعضائه، قبل أن يُكلّف مَمَرْغراد بدفنه.
كأنّ الفيلم ينطلق من صُور الحرب ليتخلّص منها، وينتقل إلى الأساسيّ، المتمثّل بتقطير أجواء ومناخات تسبر، بصورة أعمق، انعكاسات الأزمة، المترتبة على حرب مستدامة، على شخصيات، بشكل غير مباشر، في وضعيات اغتراب تعيشها يومياً.
يُغلق الأب، بحرص بالغ، عينيْ طفله في المستشفى، كي لا يرى مشاهد الدماء، ويشقى لجمع شلنات (حُزم ورقية بفعل التضخّم المستشري)، لكنّها لا تكاد تكفي لسدّ تكلفة وجبات بسيطة، يُحضرها الأب لسيغال بأقصى ما يستطيع من عناية، ثم يرسله إلى المدرسة، ليعود خائباً وقائلاً أنْ لا مدرّسَ هناك، مرّة أخرى، قبل أنْ تُغلق المدرسة نهائياً، ما يعكس استقالة جماعية للدولة ومؤسّساتها.
وحدها تبدو مبادرة بعض الشيء، حين تبيع حزمَ ورق القات المُخدّر (مفارقة أخرى)، لجمع النقود في صندوق خشبي، بغية تحقيق حلمها في فتح محل خياطة. لكنّ مَمَرْغراد لا يتردّد في اختلاس النقود منها، ليصرفها في شراء أوراق قات، يمضغها رفقة صيادين معاشيين مستلقين في قوارب صيد راسية، في مشاهد ليلية تؤطّرها كاميرا مدير التصوير الواعد مصطفى الكاشف، نجل المخرج الراحل رضوان الكاشف، برهافةٍ تلتقط لهيب السجائر وسط ليل بهيم، في استعارة حول حلقة جهنمية تعبّر عن جمود قاتل وأفق مظلم.
هذه إحدى أهم نقاط قوّة "القرية المجاورة للجنة"، حيث تُوفَّق مقاربة الفضاء في وضع الشخصيات في أماكن آسرة، تعكس أو تخلق جدلية مع وضعيتهم، يغدو معها الحوار أو التفسير شيئاً لا طائل منه لترجمة حالة قصوى من الاغتراب، تمتدّ إلى نبرة خاصة تنطق بها الشخصيات جملَ الحوار بنوع من الاستياء المتجرّد، كالمشهد البديع لسيغال وهو يرسم خربشات على سبورة الفصل الخالي إلا من مَمَرْغراد، الذي لا يحسن القراءة، فينظر إلى الرسوم بقلّة حيلةٍ، تحيل على أزمة تعليم تقع في قلب العوامل المسؤولة عن الحالة الكارثية للبلد. أو حين يكفي منظر المنازل، المهدّمة بفعل الحرب، في خلق حوار بين نفسية الأخت والشاب الذي تتعرّف عليه، لبناء علاقة حبّ جديدة. مشهد آخر فعّال، يصبح بفعله ماء البحر، الفاصل بين سيغال وصديقه عند لقائهما بعد غياب الأول، بفعل تسجيله في مدرسة داخلية تقع في المدينة.
هذه إشارة دالّة حول التباعد الجذري الذي سينشأ بين مساريهما المستقبليين، انطلاقاً من هذه الخطوة. لعلّ الحلم المتكرّر في منام سيغال الذي لا يفتأ يحكيه لصديقه في صُور جنة تتوفر فيها حلويات وشوكولاتة بوفرة، دلالة على المستقبل الزاهر الذي كان لينتظره، بحكم ذكائه وشخصيته المتّقدة، لولا حتمية الظروف المثبطة التي يعيشها.
سعيها إلى التفلّت من زواجها السابق، والارتباط بشخص تحبه، إضافة إلى اجتهادها في جمع المال لتحقيق حلم محل الخياطة، هذا كلّه يوضح أهمية استرشاد المرأة للخروج من أزمةٍ، صنعها تعنّت الرجال وحروبهم الصغيرة. لكنّ نظرة أخيها، المُحقّرة لها، والقوانين المصرفية التي تفرض عليها مثلاً أنْ تبحث عن كفالة زوجها أو أخيها للحصول على قرضٍ، تُحسِّن بفضله وضعها الاقتصادي.
الرهان الصعب، الذي وُفِّق فيه مو هاراوي ومدير تصويره، كامنٌ في التقاط مشاهد ساحرة، بعضها جميل، وبعضها الآخر غريب، لكنّها لا تسقط في الغرائبية، في أي لحظة. أسلوبه يعتمد حكياً مقتصداً ومشاهد ثابتة وطويلة، تولي أهمية كبرى لمقاربة الفضاء، غير بعيد عن سينما المخرج التشادي محمد صالح هارون (رجل يصرخ)، بينما يذكّر التزامه قضايا بلده الصومال بأفلام الإثيوبي هايلي غيريما (تيزا)، ما يبشّر بخصوصيةٍ تميّز سينما بلدان القرن الأفريقي. لكنّ الاضطرابات السياسية، والناتج عنها من قلّة إمكانات تجعل سينمائياً واعداً كهاراوي يدين بإنجاز فيلمه الأول لإقامته في النمسا (منذ 2009)، تطرح أسئلة مقلقة حول مستقبل السينما في الصومال، رغم مشاركة "القرية المجاورة في الجنة" في "كانّ".
يغمز العنوان، باستعارة جميلة، إلى صومال آخر أفضل وممكن، وغير بعيد عن الحالي، لكنّ طريق تحقيقه محفوفة بالصمود، وبقدرة التكافل العائلي والحب على تجاوز الصعوبات. تغيير جذري لعل وظيفة السينما المبدعة، بالضبط، الإشارة إلى أفقه بانتظار أنْ تلتقط الإشارة آذانٌ مصغية.
كرسالة في زجاجة، وسط بحر صراعات وقلاقل سياسية واجتماعية، يمثّل فيلم هاراوي نداءً لتحكيم العقل والعاطفة، للخروج بهذا البلد الرائع من شرطِ عيش أضحى لا يُطاق.