- فيلمه "الفيلم عمل فدائي" يعد نقطة تحول، حيث يعيد كتابة التاريخ من منظور السكان الأصليين عبر "تخريب الأرشيف" لإظهار الوجود الفلسطيني مقابل الاستعماري.
- يواجه الجعفري تحديات مثل نقص المواد الأرشيفية الفلسطينية، لكنه يستمر في استخدام الفن كوسيلة للنضال وإعادة تأكيد الهوية الفلسطينية في مواجهة الاستعمار.
اشتق المخرج الفلسطيني كمال الجعفري طريقاً خاصاً في مساره السينمائي الوثائقي منذ عشرين عاماً، بسبب شاغل واحد أمسك به، وقرر من خلاله هويته البصرية. يقوم هذا الشاغل على "العدالة السينمائية" و"المحو المضاد" و"كاميرا المسلوبين" أمام الأرشيف السينمائي الاستعماري المسيطر.
لنا أن نعرف أن الجعفري في هذه الحالة ليس من خارج المكان، بل هو من سلالة فلسطينية بقيت داخل المناطق المحتلة عام 1948. وبذا، كان أكثر قرباً من لاجئي الشتات في تلقي سياسات الدولة الاستعمارية مباشرة على أرض عليها أن تكون خالية من السكان الأصليين، أو توفر لهم وجوداً ضحلاً عابراً في الفيلم الروائي.
أقول الروائي، لأن الصهيوني يفضّل السينما الروائية. ليس ثمة فيلم أوقح من فيلم "أرض بلا شعب لشعب بلا شعب". ومن هنا، ينبغي للسينما الاستعمارية الاستيطانية أن تبدأ وجودها بعيداً عن الأرشيف الوثائقي، من الخيال الروائي الذي يؤسس السرد من واقع الدولة الجديدة وهي تفترس الجغرافيا والتاريخ.
يشكل الفيلم الأخير للجعفري، "الفيلم عمل فدائي"، الذي شاهدناه في مسرح متحف الفن الإسلامي في الدوحة ضمن ملتقى قمرة السينمائي 2024، مفصلاً نوعياً في مساره، يقوم على مجابهة الأرشيف الإسرائيلي من داخله.
كيف للمخرج أن يواجه الوثائق من دون الحصول عليها؟ بالطبع كما في كل الحالات الاستعمارية، يلجأ أصحاب الأرض إلى ما تيسر من أرشيفات المستعمر. وفي هذا كتب الكثير عما ينتج من أدب وفن ما بعد الاستعمار ضمن تسويات كبرى، أحد الضاغطين فيها هو الحس الأخلاقي الذي يقول أبناء وأحفاد المستعمرين الأوائل إنهم ملتزمون به، وكذا نضال السكان الأصليين لكتابة تاريخ لا يزوّره الغرباء.
ما لدينا من أرشيف نجابه به، هو بحسب مصادر إسرائيلية، لا يتعدى 2%، والباقي تعمد السلطة الصهيونية إلى إخفائه. ومن هذه الحصيلة المقتنصة من فكي ضبع، ينشأ فيلم مثل الذي رأيناه. وقد أمسك الجعفري بهذا الكنز الوثائقي وعمل على مونتاجه ليكون المشاهد أمام صور متضادة: وجود فلسطيني مقابل وجود استعماري.
وهو في هذه الحالة يريد نقل الوجود الفلسطيني من المصادفة خاملة الشأن إلى الموقع الحقيقي بوصفه شعباً صاحب كاميرا مسلوبة. ويختار المخرج هنا، كما في أفلام سابقة، أن يُقدم على عمل "تخريبي". هذا الأرشيف الذي عليه أن يُقدَّم باحترام قيمته الوثائقية، بينما يعمد هو إلى دلق دهان أحمر على الوجوه وأحياناً الأجساد كاملة، فلا نعود نرى الوثائقي، بل تهكم الجعفري على مواده وعلى تاريخها المتسلط.
ما سماه "تخريب الأرشيف" قد يستشكل على من يرون عدم وجاهة ذلك، علماً أن معركة المصير فلسطينياً هي في النهاية على هذا الأرشيف العزيز الذي يجب أن يكون واضحاً، لأنه يدعم روايتنا، فلماذا نخرّبه فوق التخريب المنهجي الذي يريده المستعمر؟
عام 2015، كانت لدى المخرج جولة "تخريبية" رائدة، في فيلم "استعادة"، إذ استهدفت خمسين فيلماً روائياً إسرائيلياً عُرضت ما بين عقدي الستينيات والثمانينيات، وفيها تظهر على وجه الخصوص مدينة يافا ويظهر فلسطينيون من دون قصد. فالمكان المراد إسرائيلي، وأي فلسطيني يظهر في مشهد خارجي، فإنما لأنه مر اعتباطاً في الشارع، ليغْني المشهد ويمنحه بعداً واقعياً في فيلم قد يكون غرامياً أو كوميدياً.
نحن نمحو أيضاً بيدٍ عزلاء. نحن المهزومين يمكننا إزاحتكم من المشهد. هكذا كان يفكر الجعفري وهو يمحو الممثلين الإسرائيليين ويبقي على الفلسطيني الهامشي، ويبقي على المكان الذي غالباً ما تعرض إلى الهدم، لكنه موجود في الفيلم الروائي. إذاً، يقع الاستشكال حين يخرّب المخرج سردية خيالية ويستل منها الوجود الوثائقي للبشر والأماكن، بينما في السلوك الفيلمي الجديد هو تخريب الوثيقة ذاتها.
عليه، يجوز أخذ زاوية نظر مغايرة تحترم خيار المخرج، لكنها ترى أن التجريب (لا التخريب) يمكن أن يظل فعّالاً من دون التخلي عن جوهر الأرشيف بما هو وثيقة.
والجعفري بمؤهلاته الفنية، إن أراد دخول مغامرة سينمائية، يمكنه تقديم وصفة ذهنية لا صحافية مباشرة، مع الإبقاء على ما نحصل عليه من حقائق. وهذه الحقائق لا تقوم إلا على الصورة كما هي.
لماذا نفكر هكذا؟ لأن الصور مجال سجال ونضال وتعمية واجتزاء. ولقد كنا أمام الفيلم معزولين بقرار من المخرج عن أي شروحات للمواد الفيلمية التي تنهال أمامنا منذ بداية القرن العشرين، حتى الانتفاضة الأولى، بحجة فنية على لسانه تفيد بأن التوثيق ليس مهمّاً ما دمنا عرفنا هوية الضحية.
هنا، سيكون أي إنسان حافي القدمين أو معتمراً كوفية من فئة الضحية، وعكسها سيكون حكماً الجلاد. هذا مقبول ومرحب في تجريبيته لو كانت الأرض والبشر مشبعين مؤمنين بهويتهم، وهذا غير موجود في حالة الاستعمار الاستيطاني الذي تمثل إبادة غزة وجهه الحقيقي.
لا أحسب أن التعريف بفلسطينية الشهيد ماجد أبو شرار مثلاً سيكون خصماً من ذهنية الفيلم، كما أن مشاهد الجثث المنتفخة والحريق المندلع يمكن اجتراح مئة طريقة للقول إنهما من صبرا وشاتيلا ومن حريق مركز الأبحاث الفلسطيني الذي قصفته الطائرات، من دون الوقوع في شبهة الصحافية المباشرة، بل أكثر من ذلك، ثمة أغنية ذات شجن فاقع بعنوان "متحف الأيام"، لم يبدُ إقحامها في الفيلم مُستساغاً، لكننا فوجئنا بإيضاح الجعفري خلال النقاش الذي تلا العرض أنها من الأرشيف الإسرائيلي، وهي أغنية دعائية إسرائيلية عن التعايش بين العرب واليهود ألفها الشاعر سميح القاسم عام 1962. لقد تغيرت قيمة الأغنية بسبب بعدها الوثائقي. بهذا، اختار المخرج المضي في إزعاج الأرشيف الإسرائيلي، مضحياً بحقنا في المعرفة.
عندما هجم الهمج على قطاع غزة، كانوا مثالاً نادراً في التاريخ المعاصر على ارتكاب الفعل من دون تردد وترك العالم يشهد المجزرة ويوثقها بالثانية وبالدم قطرة قطرة، بل والإصرار على المزيد منها، لمن لديه هواية التوثيق.
كيف، إذن، يحرص هذا الكيان على أرشيف قديم ويخبئه؟ لأن السردية الكبرى خارج الحرب المندلعة عليها أن تكون هادئة وتمحى بالتدريج جيلاً فجيل، بما لا يشبه محو المربعات السكنية في لمح البصر في قطاع غزة. هاتان حربان مختلفتا المدى. لهذا، ربما، كان على الفيلم أن يواصل المواجهة بطريقة مغايرة، علماً بأن المواد التي نحصل عليها منذ اختراع الكاميرا حتى لقطات الموبايل في الشجاعية هي حق للفن الفلسطيني لا يلغي ويجب ألا يلغي ضروريته.