"الفرسان الثلاثة"، رواية ألكسندر دوما، عنوان يحيل إلى قراءات الطفولة، وأفلام عدّة مقتبسة منها. عندما يحلّ في نسخة سينمائية معاصرة، يجتذب جمهوراً عريضاً يبحث عن ذكرى متعةٍ ماضية أو دهشةٍ جديدة. الرواية الأشهر لدوما اقتُبست 40 مرة في السينما، بين عامي 1903 مع الفيلم الصامت "الفرسان والملكة" لجورج ميليس، و2013 مع الروسي ثلاثي الأبعاد لسيرغي جوكانوف بالعنوان نفسه.
"الفرسان الثلاثة: دارتانيان" (2023)، للفرنسي مارتان بوربولون، فيلم تاريخيّ ومغامرات أسطورية. يعود الفرسان بنسخة فرنسية تجسّد رجوعاً إلى الفيلم الشعبي الفرنسي، النوع الذي ميّز السينما الفرنسية منذ نشأتها، وبلغ ذروته في سيتنيات القرن العشرين وسبعينياته، والذي يؤكّد أن السينما فنٌ شعبيّ يجذب الجماهير، من دون تخلّيه عن مواصفات فنية، تعتني بشكل السرد لغوياً وبصرياً (حواراً وديكوراً وأزياءً وتصويراً).
منذ حلولهم على الشاشات الفرنسية أخيراً، وفي 7 أسابيع من العرض التجاري، جذب الفرسان أكثر من 3 ملايين وربع مليون مشاهد. الفيلم هذا حافزٌ على زيادة مبيعات الرواية 10 أضعاف. إنّها من أعظم الروايات التاريخية، ألّفها دوما على خلفية تاريخية حقيقية، احتوت على أقلّ قدر ممكن من خيانة واقع المجتمع الفرنسي في القرن الـ17. فيها، اعتمد الكاتب شهادات مكتوبة في تلك الفترة، لا سيما كتاب "مذكرات دارتانيان"، التي، رغم كونها مزيّفة، فدارتانيان لم يكتبها، أظهرت عقليات ذلك الوقت، والأهم روح الفرسان وأصحاب الرتب والعلاقات السياسية والعسكرية في فرنسا آنذاك. كما اعتُبرت لوحة واقعية، إلى حدّ ما، عن القرن الـ17 الفرنسي، تجسّد شخصياتها حقاً شخصية فرسان ذاك الزمن الذين رفعوا شعار "الجميع للواحد، والواحد للجميع".
جذبت الرواية قراء كثيرين، بينما اعتبر نقادٌ الاقتباسات السينمائية الفرنسية لها عادية، وغير مُعبّرة عن روح الرواية، وبعضها سيئ. في الاقتباس الجديد، مع شخصيات مرسومة بدقّة، وحكايات مخلصة لعصرها، يعقد بوربولون زواجاً مقنعاً بين الأدب والسينما، اختار فيه نسجاً معبراً عن واقع المجتمع الفرنسي آنذاك، مع تفاصيل صغيرة وعابرة وقليلة جداً، تبدي نظرة معاصرة (ميول مثلية لأحد الفرسان)، وهذا أبعد عن الفيلم الإحساس بنظرة شخصية للمخرج الذي اعتمد السرد أسلوباً محايداً تماماً في معالجة أحداثٍ، تتشابك فيها خصومات سياسية وخيانات وأسرار ملكية عائلية ومكائد حبّ، على خلفية حرب ضد الإنكليز، فظهر الفيلم في حلّة تعبّر عن النص الروائي، لا افتعال فيها أو تجاوزات.
في زمنٍ كان الطموح فيه عسكرياً، لا سيما عند النبلاء، يصل النبيل الشجاع دارتانيان (فرنسوا سيفيل) من إقليم غاسكوين إلى باريس، باحثاً عن المجد والثروة، وحالماً بالنجاح في المجتمع بأي ثمن، بالتحاقه بسلاح الفرسان الملكي. في الفيلم، يتجلّى سلوك طبقة النبلاء، الفقيرة لكنْ المُغَامِرة والمقدامة والقادمة من الأقاليم، على نحوٍ رئيسي، في شخصية دارتانيان، المبارز المثالي الذي لا يتورّع عن المخاطر لأداء الواجب، أو الحفاظ على الشرف، والذي يتمتّع بمزاج قتالي يحثّه باستمرار على الاندفاع واعتماد المبارزة، لعدم الإخلال بقواعد النبالة المتعارف عليها حينها، ويساعده على تأسيس صداقات اعتبرت من أعظم أساطير الصداقة والالتزام والإخلاص.
عبر مصادفات عدّة، تشغل حيزاً محورياً في هذا النوع السينمائي المبني على المغامرة، تتمثّل المصادفة الأولى في محاولة دارتانيان، في طريقه إلى باريس، إنقاذ امرأة شابة من الاختطاف. تتوالى المصادفات، واضعة إياه في طريقٍ سعى إليها، عبر مواجهة آتوس (فانسان كاسيل) وبورتوس (رومان دوريس) وأراميس (بيو مارماي)، في مبارازة لم تكتمل، ليس بسبب انسحاب ما أو فشل، بل بسبب القدر الذي يتدخل في مصادفة أخرى. على الفارس الطموح وهؤلاء الذين باتوا رفاقه في السلاح، تكريس جهودهم مجتمعة لإنقاذ شرف ملكة فرنسا، النمساوية آن (فيكي كريبس)، وزوجها الملك لويس الـ13 (لوي غاريل)، والوطن، من عدوّين يحبكان المؤامرات ضدها، باتهامها بالخيانة الزوجية.
الكاردينال دو ريشيليو (إيريك روف) والجميلة ميلادي (إيفا غرين) ينشطان لتحقيق هدفهما، في خضمّ صراعات دينية بين الكاثوليك والبروتستانت، هدّدت فرنسا مباشرة من الجارة الإنكليزية، بينما يجهد الملك في تجنّب مذبحة سانت بارتليمي جديدة.
أسلوب السرد سلس، تتوالى فيه مشاهد حياة القصر وبذخه، مع مبارازت ومغامرات ومصادفات، في مواجهة المؤامرة. يحشد الفيلم ممثلين كباراً لتأدية شخصيات الفرسان التاريخية، التي تتجلى صفاتها المتناقضة وروحها القتالية من خلال أساليبها في مواجهة الأزمات. لكل منهم دور مرسوم بدقة وحرفية: آتوس نموذج النبيل في ذلك العصر، وقائد حكيم، وضحية مؤامرة خبيثة يسعى رفاقه إلى إنقاذه منها بإخلاص. آراميس شخصية تُعبّر عن التردّد السائد حينها بين الانخراط في مهنة السلاح، والعمل الديني، فباتت الأكثر تقلّباً وعمقاً بين أقرانه. بورتوس ذو شخصية عبثية وطريفة ومرحة، ومتأرجحة بين حبّ الرجال والنساء، فوازن ـ بحضوره الحيوي وقوته الجسدية ـ بين جدية آتوس ومكر آراميس. تحضر أيضاً الممثلة الفرنسية الجزائرية، الصاعدة بقوة في السينما الفرنسية، لينا خضري، بتأديتها دور كونستانس بوناسيو، مساعدة الملكة وحبيبة دارتانيان، مُصبغة على شخصيةٍ ذكيةٍ ومدبّرة رقةً ولمسةً شاعرية.
الأكثر حضوراً وتميّزاً بينهم جميعاً، رغم قِصَر دوره مقارنة بالفرسان، لوي غاريل الذي أضاف الكثير على لشخصية ملكٍ تتجاوزه الأحداث، وخاضع لتأثير الكاردينال دو ريشيلو. مع هذا، أثار التعاطف تماماً في أدائه، مع التردّد والضعف اللذين ظهرا فيه تارةً، والقوة والإرادة والقدرة المدهشة والفجائية على فرض القرارات، تارةً أخرى.
بدا الجميع متّحدين معاً، في فيلمٍ تميّز بإيقاع سريع يتلاءم مع نوعه، وحوارٍ ذكي لم يُشعِر إلاّ في مشاهد نادرة بعصريّته (تعليقات دارتانيان وأسلوب كلامه). فيلم مسلٍ، يلامس مشاعر الطفولة لمن ارتبط بالرواية. ينتمي إلى النوع الاستعراضي الشعبي الذي كلّف كثيراً في ديكوراته والمواقع الخارجية لتصويره، التي كان معظمها حقيقياً لا رقمياً. عرف بوربولون كيف يتعامل مع ذاك العصر، وتجلّى هذا في أزياء الفرسان التي عبّرت عن الأصالة، فبدت قذارتها كما يليق بمن أمضى وقته في المعارك والمبارزات.
لم تظهر كلمة " النهاية" في ختام الأحداث. فالفيلم توقّف عند نقطة مهمّة، تتعلّق بمصير المرأة ميلادي، المشاركة في المؤامرة على الملكة، مع عبارة "يتبع..."، ما يعني أنّ لهذا الاقتباس الجديد جزءاً ثانياً، في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، بعنوان "الفرسان الثلاثة ـ ميلادي".