الـ"سينفيليّ" في محراب السينما: مناقشات مختلفة في "مهرجان خريبكة"

15 يونيو 2022
"طعم أرضنا" ليوهي أمولي: استغلال وتفاوت في المكانة والمهنة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لماذا تبدو شخصية الإنكليزي طيّبة، بينما يظهر الصيني شريراً، مع أنّهما معاً مُستغِلاّن في منجم الذهب الرواندي؟

هذا سؤال مطروحٌ على الرواندي يوهي أمولي، مخرج "طعم أرضنا" (2020)، المشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ22 (28 مايو/أيار ـ 4 يونيو/حزيران 2022) لـ"المهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة" في المغرب. أجاب أمولي أنّه لا يرى في هذا تعاطفاً مع أيّ من الشخصيتين، لكنّ الصيني يسيطر على منجم الذهب، والإنكليزي مجرّد مُساعدٍ له.

بعد هذا، توالت تعليقات عن حرب الذهب في أفريقيا. السلطة مأجورة لرجال الأعمال المستثمرين، ولا تنقذ العمّال المحليين من عقود الإذعان. لذا، يشعر هؤلاء أنّ السلطة باعتهم، وبالتالي لا خيار لهم في وجه الاستغلال الذي يتعرّضون له. بمجرّد ذكر الاستغلال، توالت مصطلحات الإمبريالية، وتوحّش الرأسمال، والشرطة في خدمة المستغِلّ، حتى كاد كارل ماركس يظهر في قاعة المناقشة.

طال النقاش. أعلن مُسيِّره، الشرقي عامر، نهاية الجلسة، مع إمكانية الاستمرار في محاورات ثنائية، ثم انتقل إلى استضافة فريق فني آخر، لمناقشة فيلم طويل بعنوان "أوليفير بلاك" (2020)، ذكر كاتبه ومخرجه ومنتجه، توفيق بابا، أنّه أُنجز بتمويلٍ ذاتي، وأنّ الميزانية صغيرة، فتوالت الأسئلة عن كلفة استئجار المعدّات، ومدّة التصوير، وعلاقة الكلفة بالتصوير في مكان معزول. ثمّ تحول النقاش إلى العلاقة الإنسانية بين الشيخ والشاب، وعلاقة المغرب وأفريقيا. امتدّ النقاش من الندوة إلى المطاعم وأروقة الفنادق.

ما الذي يجعل مشاهدة فيلم ما، في مهرجان، أفضل من مشاهدته في صالة سينما؟ شروط العرض؟ فخامة الصالة، وعظمة الشاشة؟ المجانية؟ كلا. الفرق كامنٌ في استثمار المُشاهدة المشتركة لإنتاج خطاب سينمائي ما للأفلام المعروضة. الجوّ السينيفيلي يخلقه عارفون بالفن السينمائي، فينتجون ويبثّون تحاليل وتعليقات وتفاسير.

في السياق نفسه، جرت مناقشات لأفلامٍ معروضة في اليوم السابق. هذا حدث مميّز في مهرجانات، تبحث عن تمديد التفكير في الأفلام إلى ما بعد المُشاهدة، من السينفيليين. السينيفيلي، بحسب علم الاجتماع، شخصٌ تحتلّ السينما محور حياته. إنّه يحبّ السينما كثيراً، أو يعرف السينما كثيراً ("علم اجتماع السينما وجماهيرها"، إيمانويل إيتيس).

نوقش "طعم أرضنا". فيه وقائع جرت في قلب أفريقيا، يرويها يوهي أمولي، لمعايشته إياها عندما كان يعمل في المنجم. هذا فيلم تخييلي، يوثّق تجربة مُعاشة. وصل مُستغلّ جديد إلى أفريقيا. الصين اللاعب الأول في أفريقيا حالياً. انطلقت في حرب الذهب فيها بين المواطنين والمستثمرين الأجانب. المناقشات توضح الصورة أكثر. هناك من يطرح أسئلة، ومن يُدلي بارتسامات. تمرين في النقد العفوي الفوري، بخليطٍ من العربية والفرنسية. تمّ تحليل مظاهر الاستغلال في القارة الأفريقية، وهيمنة الأجانب على خيراتها. جرت مقارنة بين المستغلين الصيني والبريطاني. يبدو أنّ المستغل البريطاني أكثر إنسانية.

 

 

لتوصيف المشهد، طرحتُ أسئلة: من يتدخّل؟ ماذا يقول؟ ما خلفيته؟ كيف يُقوّي النقاش الصلة بين ضيوف المهرجان؟

جواباً على ذلك، وفي حوار جانبي، صنّف مُسيِّر المناقشات، الشرقي عامر، طارحي الأسئلة في فريقين:

يتساءل السينيفيليون، عشّاق السينما، عن المعنى والعِبر والرموز في السينما، ويُفضّلون نقاشات ذات بُعدٍ فلسفي إنساني، ويستنبطون قيماً إنسانية تصنع عظمة الفيلم وشاعريته. في هذا الصنف الإنساني، هناك من يجد صعوبة شديدة في إطلاق الميكروفون.

بينما يتساءل المهنيون المحترفون، وهم السينيفيليون الجدد، عن قضايا تقنية ومالية، ككلفة الفيلم، ومدّة التصوير، ونوع الممثلين (أهم محترفون أم هواة؟)، والتطوّع، والتكاليف، وطريقة التعاون، وإدارة الفريق المُقلَّص عدد أفراده في التصوير. ثم مدّة المونتاج.

يطرح السينيفيليون عشّاق السينما درجة تعبير الفن عن الحياة، وينفرون من المصطلحات التقنية. يتساءلون عن رسالة الفيلم. بينما يتحدّث المهنيّ عن إجراءات صنع ذلك.

بين الطرفين، أعلن مصطفى العلواني أنّه ينتقي أفلاماً مُعيّنة، تُنفَّذ ببطء، وتُناسب توجّهه السينيفيلي، ويتجنّب أفلاماً خفيفة، لأنّه يخاف أنْ تزعزع له عقيدته السينمائية.

بعد كلّ هذه المناقشات، وعرض معلومات عن الميزانية ومدة التصوير، طالب الشرقي عامر بضرورة مُشاهدة أيّ فيلمٍ، بناء على شكل لقطاته ومضمونها، لا على معلومات بطاقة الإنتاج. أضاف أنّ المطلوب تقييمٌ فنّي، مُلاحظاً أنّ ترجمة الفيلم لا تعكس حقيقة الجُمل المنطوقة في الحوار.

بعد الاستماع إلى تعليقات مختلفة في إحدى المناقشات، طُلب من مخرجٍ أنْ يردّ، فقال: "كلّ نقد أسمعه، يساعدني في صنع فيلمي المقبل".

بفضل مناقشات خصبة كهذه، يعتبر السينيفيليُّ المهرجانَ محراب السينما. إذا غاب هذا الخطاب النقدي، وما يتضمّنه من تحليل وتعليق مُرافق لعروض الأفلام، عن أيّ مهرجان، فإن صالة سينما فخمة، خاصة على الكورنيش، تبقى أفضل بل أروع للمُشاهدة، بما توفّره من فخامة كراسيّ وجوّ مُشاهدة، نفسي وتقني واجتماعي، لا مثيل له.

المساهمون