"السَّد" لعلي شرّي: أداءٌ يتوافق وعمق الإشارات

22 مارس 2023
ماهر الخير في "السَّد": أداء شبه صامت يقول الكثير (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

ماهر (ماهير الخير) مهووس بالطين. يعمل، مع شبابٍ آخرين، في مصنع لصُنع الـ"طوب"، في منطقة قريبة من سد المروي (شمالي السودان). بعد انتهاء دوامه، يغادر إلى مكانٍ خاصٍ به، ليُكمل بناء نصبٍ ضخم من طين. قليل الكلام. يستمع إلى "أحداث" الخرطوم، فالحراك الشعبيّ قائمٌ منذ 6 أيام (الانتفاضة السودانية، المنطلقة في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، في تظاهرات ضد الغلاء)، والأذية تتفاقم بحقّ متظاهرين/متظاهرات سلميين.

ملامح ماهر، كملامح رفاقه، غير عاكسةٍ انفعالاً أو قلقاً أو شعوراً، غالباً. ملامح صامتة. لا شيء يوحي بتعاطف مع الغليان الحاصل في العاصمة، رغم أنّ الجميع متابعون لها عبر هواتفهم الخلوية، والإذاعة والمحطة التلفزيونية. غبار ووحل وتعب، وحياة تبدو روتينية. اتصالٌ هاتفي لماهر يوحي بأنّ هناك من تنتظره، وتشتاق إليه، كاشتياقه إليها. الهاجس الطاغي عليه، منصبٌّ على تشييد ذاك النصب، ومواجهة أحلامٍ أشبه بكوابيس، والاستماع إلى صوت تمثالٍ (من طينٍ أيضاً)، لعلّه جانبٌ من شخصيته، يحثّه (الجانب) على بذل جهدٍ في فهم ذاته وروحه، وما يعتمل فيهما من ارتباكات وتساؤلات.

اللبناني علي شرّي، في أول روائي طويل له بعنوان "السَّد" (2022)، يروي، بصُور متمكّنة من قول أشياء كثيرة، بعضاً من سيرة رجلٍ، يُشكِّل "الطين حياته"، كما في تقديم النصّ السينمائي (سيناريو علي شرّي وجوفروا غريزون، بمشاركة برتران دونيلّو. لينا منذر مشاركة في فكرة الفيلم، وغسان سلهب في تطوير السيناريو)، الذي يذكر أنّ هذا الرجل موجودٌ "في مكان ما،/ على طول ضفاف النيل العظيم،/ في ظلّ سدّ هائل".

فيلمٌ مبنيّ على اشتغال بصري (مدير التصوير باسم فياض)، غير حاجبٍ أداء يتوافق وعمق الإشارات والحالات، المشبع بها ذاك النصّ. ماهر الخير بارع في إظهار المخفيّ، كبراعته في تأدية المُعلن والواضح، وهذان أقلّ ظهوراً، والحاجة إليهما درامية بحتة، لتجنّب المغالاة في اللعب على وتر المخفيّ، وإظهاره بصُور وملامح وصمتٍ ولقطات، تتكفّل بسرد الحكاية/الحالة، وبمنح ماهر ما يُعينه على كشف المستور فيه، أو بعضه على الأقلّ. كائنٌ بشريّ يوحي بهدوء وصبرٍ وسكينة، رغم أنّ قلقاً وارتباكاً وقسوةَ عزلةٍ تغلي في ذاته وروحه، والرغبة في إتمام النُصب امتدادٌ/تكاملٌ لرغبةٍ في خلاصٍ منشود، لكنّه معطّل (أو هكذا يبدو).

الإيقاع، المُستعان به في سرد النصّ وتفاصيله، "بطيء". هذه المفردة (بطيء) ربما تُحيل إلى ملل، وهذا غير صحيح البتّة. فالإيقاع هنا، رغم الـ"بطء" او بفضله، غلافٌ لغليان حادّ في ذات ماهر وروحه، سينكشف تدريجياً، لأسبابٍ سيكون الموت، بمعنييه المجازي والمادي، أبرزها. الـ"بطء" المقصود يهدف إلى تماهٍ بشخصية ماهر تحديداً، وبما يحدث معه وفيه وحوله، وبعيداً عنه أيضاً. الـ"بطء" أداة بصرية تُفكِّك أفراداً وأوضاعاً بهدوء، يحتاج التفكيك إليه لما فيه (الهدوء) من قدرات على تبيان المُفكَّك في ذات ماهر وروحه، وفي جوهر الحاصل وما ترمز إليه مسائل عدّة، كالطين والنُصب والسَّد والمياه والنهر والجرح (في ظهر ماهر، لجهة اليسار)، وغيرها.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الإيقاع، بهذا الأسلوب، يمنح حيزاً أوسع للتدقيق في تفاصيل وهوامش، يُشكّل التنبّه إليها ومعرفتها وفهمها امتداداً لنصّ سينمائي (كتابة وتصويراً واشتغالاتٍ فنية وتقنية)، يحتمل إسقاطات وتفسيرات، للفيلم وصانعه حصة أساسية فيها، وللمُشاهِد/المُشاهِدة مساحاتٍ لها. لكنّ فقرتين اثنتين تُكتبان على الشاشة، يقولهما تمثالٌ لماهر، والتمثال جانبٌ أساسي من شخصيته (ضميره؟ لاوعيه؟ هواجسه؟ رغباته؟ انفعالاته؟)، تُعتبران مرآة شفّاقة وقاسية عن ماهر.

توضح الأولى، بسؤال منتهٍ بـ"حسمٍ": "لماذا تهيم مثل مسكين تائه؟". الجمل القليلة، اللاحقة عليه، تكشف جوانب من سيرة المُقبل في حياة ماهر، وتنتهي بـ"حسمٍ"، لن يُغيّر التصريح عنه من كيفية متابعة المُشاهَدة بالمتعة نفسها: هناك حلم مستحيل يُطارده ماهر (ماهية الحلم مبثوثة في زوايا النص والحكاية، أو ربما غير واضحة معالمه)، وهذا سببٌ لذاك الترحال الطويل الذي يعيشه، من دون العثور على شيءٍ "في النهاية".

الفقرة الثانية مُكثّفة بسطرين/سؤالين، يُطرحان عليه بعد صدمةٍ ثانية يعيشها ماهر، تتمثّل الأولى بموت صديقٍ له. سطران/سؤالان تصعب الإجابة عليهما، فماهر يزداد انكساراً أمام ثقل الموت (الموت الثاني يُصيب عزيزاً عليه غير بشريّ، لكنّ الصدمة هنا أعنف وأكثر أذيّةٍ وقهراً وتحطيماً)، و"الحلم المستحيل" ربما ينهار حينها.

وفرة رموز وإشارات وحالات غير مانعةٍ متابعة أهدأ لسيرة ماهر، في "السَّد"، المعروض في "أسبوعا المخرجين"، في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ". كشفُها يتطلّب تمعّناً أعمق بهذه السيرة، المكتوبة بطينٍ ودمعٍ وانفعالاتٍ، وصُور. الإيقاع يستند إلى توليفٍ (إيزابيل مانكييه ونيلّي كاتييه) يُفعِّل حيوية ما يرويه (الإيقاع) من أحاسيس وتأمّلاتٍ ورغباتٍ وخرابٍ وتوقٍ إلى منفذٍ، ويتآلف مع موسيقى (روب) تُواكب لحظات اليقظة والألوان الصحراوية، وتتحايل على عتمة الكوابيس، كي تُظهر ما في الكوابيس من قسوة وتمزّق وتحريضٍ على مواجهة الذات.

"السَّد" (يُعرض في صالات تجارية لبنانية بين 23 و29 مارس/آذار 2023) مليءٌ بما يدفع إلى مواجهة الذات، والاغتسال، أو محاولة الاغتسال بالطين من أجل خلاصٍ، أو ما يُشبه الخلاص.

المساهمون