بينما تعلو الأصوات المتخوفة من سيطرة الذكاء الاصطناعي على عالم الموسيقى، تبدو صناعة السينما حالياً هي القطاع الأمثل لاحتضان هذه التقنية والاستفادة منها. من الناحية الفنية سبق أن توقعت السينما ظهور الذكاء الاصطناعي وصراع الإنسان مع الآلة في العديد من الأفلام، لكن أيضاً فإنّ استخدام التكنولوجيا القائمة على هذا الذكاء ستعود بنتائج إيجابية كثيرة على صناعة الصورة، سواء من النواحي المادية والإنتاجية أو الناحية الفنية، التي ستحول صراع الإنسان مع الآلة إلى حقيقة ولكن خلف الكاميرا هذه المرة.
اتخذ السينمائيون حول العالم خطوات أكبر تجاه الذكاء الاصطناعي مقارنة بمجالات فنية أخرى، وبات معتمداً في عدد كبير من الأعمال، سواء في تقنيات الصورة وأعمال الغرافيكس أو غيرها، إلى جانب التقنيات التي طرأت في السنوات الأخيرة مثل De-aging التي تزيل آثار الشيخوخة عن وجوه النجوم وتعيدهم عشرات السنوات إلى الوراء، وقد استخدمت في أعمال حديثة عدة، مثل Indiana Jones And The Dial Of Destiny، حين ظهر الممثل هاريسون فورد (80 عاماً)، وهو في الـ35 من عمره.
هذه التقنية أثارت عاصفة من الجدل، لكنها في الوقت نفسه بشّرت بانتعاش مسيرة نجوم كبار، من خلال إعطائهم فرصة للرجوع بالزمن إلى الوراء. ففي العقود الماضية، كان المخرجون يستعينون بممثل يشبه الممثل الأصلي، لكن أصغر سناً، لتصويره في مرحلة شبابه، اليوم باتت تقنية واحدة قادرة على القيام بهذه المهمة. تفسير ذلك على الأرض أن ممثلاً شاباً خسر فرصة عمل، باتت الآلة قادرة على القيام بها. والأمر بطبيعة الحال مرشّح للتفاقم والاتساع، بينما يستعد ممثلون آخرون لاستخدام تقنيات شبيهة للعودة بالزمن إلى الوراء، بينهم توم هانكس (66 عاماً) الذي لجأ إلى تقنية Metaphysic Live لإزالة آثار الشيخوخة في فيلمه المقبل Here.
أمام هذا الواقع توسعت رقعة النقاش، لتصل إلى إمكانية الاستعانة بممثلين حتى بعد وفاتهم. وقد تحدّث هانكس نفسه عن الموضوع قائلاً، في حديث لـThe Adam Buxton Podcast، إن قسماً كبيراً من الممثلين في هوليوود يجرون النقاشات القانونية حول حق الذكاء الاصطناعي في استغلال شخصياتهم حتى بعد وفاتهم.
أما في السينما العربية فتقتصر تدخلات الذكاء الاصطناعي حتى الآن على أعمال الغرافيكس وخدمات ما بعد الإنتاج، مع محاولات قليلة وغير احترافية، مثل محاولة المخرج محمد سامي استخدام تقنيات التلاعب بالوجوه في مسلسل "جعفر العمدة" (رمضان 2023)، ولكنها خرجت بشكل مثير للسخرية.
وتختلف صناعة السينما عن بقية الصناعات الإبداعية باعتمادها على مجموعات كبيرة وعشرات الوظائف التي تشكل في النهاية طاقم عمل مكوناً من مئات الأشخاص. لكن وظائف قسم كبير من هؤلاء مهددة فعلياً، وليس من باب التهويل فقط، كما هي الحال في قطاعات أخرى. على سبيل المثال مهام تحديد مواقع التصوير وجمع الصور واللقطات المتخيلة للمشاهد ومواقع التصوير، ومهام المؤثرات البصرية والغرافيكس، ومهام متابعة المشاهد والعمليات الإنتاجية التي يقوم بها فريق كامل من مساعدي الإخراج والإنتاج، وكذلك الموسيقى التصويرية والمكياج وعمل فنيي الكاميرات وغيرها... كلها وظائف الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بها بسهولة.
في حديث مع "العربي الجديد"، يقول المخرج عصام عبد الحميد إن السينما التي تنبأت بتطور الذكاء الاصطناعي ستتأثر به بطبيعة الحال، ويشير إلى أنهم (صناع الأفلام) حالياً يستخدمون الذكاء الاصطناعي في العديد من المهام، مثل المعالجات والتصورات قبل بداية التصوير، وهو ما يساعدهم في تفسير خيالهم بطريقة أدق وأسرع، ويضيف: "قديماً كانت هذه العمليات التحضيرية تعتمد على المراجع والبحث عن صور حقيقية لترجمة الأفكار والخيالات". ويتابع مخرج مسلسل "سوتس بالعربي" أن "الذكاء الاصطناعي يقرّب الأفكار التي في خيالنا إلى الواقع وإلى الجمهور، ويساعد في الابتكار بشكل عام، وكمخرج هذا أمر هام جداً، أي أن أستطيع ترجمة ما في داخلي من أفكار بشكل دقيق، وبعد ذلك سيساعدنا في اكتشاف عوالم أخرى في خيالاتنا وتنفيذ أعمال وأفكار تجريبية عدة".
يضيف عبد الحميد في حديثه تفاصيل كثيرة مرتبطة بصناعة السينما والذكاء الاصطناعي، مسلطاً الضوء على ميزة خلق شخصيات جديدة تماماً وتحريكها، إذ "سيكون قادراً على صنع أفلام كاملة في المستقبل القريب، لأنه يستطيع إنتاج جميع العناصر بطريقة قريبة من الصورة السينمائية والحقيقية مثل الصوت والبيئة المحيطة والشخصيات، ولأن اختيار المخرجين استخدام التقنيات التقليدية مثل VFX وCGI لخلق المؤثرات البصرية يحتاج إلى عمليات كبيرة وكاملة ومراحل صعبة، الآن نستطيع تنفيذها بمجموعة من المدخلات إلى الذكاء الاصطناعي".
أما عن تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف داخل صناعة السينما، فيقول مخرج فيلم "الغسالة" إنه سيغير بالتأكيد طريقة الابتكار والعمل في المستقبل، لأنه "بات متداخلاً مع التأليف وكتابة السيناريو أيضاً، ويقترح علينا بعض الأفكار والخطوط. ورغم أن هذه الأفكار لم تصل إلى مستوى احترافي بعد، إلا أنها من الممكن أن تتحول إلى أداة مساعدة... أعتقد أن السينما في المستقبل ستحتاج بالفعل إلى البشر ولكن بأعداد قليلة للغاية، وسيلغي الذكاء الاصطناعي العديد من الوظائف، ولن ينجو سوى أصحاب الأفكار والمدخلات التي تساعد في عمل الذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال من الممكن أن يكون مدير التصوير فناناً، ولكن الذكاء الاصطناعي سيغنيه عن جميع الفنيين والمساعدين وهم عشرات، وكذلك مهندس الصوت والمؤلف الموسيقي والمخرج وكاتب السيناريو".