هل سيصدق وصف رشدي أباظة، مع حفظ الألقاب، للسينما بأنّها همبكة؟! قال الممثل الراحل ذلك رداً على سؤال خلال أحد الاجتماعات المهمة لبحث مشكلات السينما المصرية وتحدياتها في ستينيات القرن الماضي، ملخّصاً بهذا الوصف نظرته إلى السينما وما تقدمه.
قامت الدنيا ولم تقعد آنذاك بسبب هذا الوصف، واتهم الكثيرون أباظة بالجحود والنكران تجاه السينما التي أعطته الشهرة والمجد.
وبنفس هذه الرؤية، ومع اختلاف في التفاصيل والملابسات، عبّر عمر الشريف عن عدم جدوى فن التمثيل، مشيراً إلى أنّه لا يستحق الثروة التي جناها من المهنة. بالنسبة إليه، الممثل هو بلياتشو أو أراغوز، لا يفعل الكثير، لكنّه يحصل على المبالغ الطائلة، بينما هناك مهن تستحق التقدير المالي الضخم من دون أن يحصل العاملون فيها عليه.
تذكرت هذا عزيزي القارئ وأنا أطالع تصريحات مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرغ في مواجهة المساعي لتعزيز عالم مارفل السينمائي وفرضه بقوة المال على السينما الأميركية، ومن ثم على السينما في العالم، مقابل التضييق والتحجيم والتهميش للسينما المعنية بالجمال والمفعمة بالمشاعر الإنسانية الحقيقية، والمعنية بموقف الفنان ونظرته إلى العالم، وطرح رؤاه السياسية والاجتماعية والثقافية من منظوره الذاتي، ومع هذا الطرح تصبح بالتبعية مهنة التمثيل فاعلة وحاضرة بوصفها أداة وتعبيراً لصانع الفيلم لتحقيق رؤيته الجمالية.
ولعل الوصف الدقيق هو الذي أطلقه سكورسيزي على سينما مارفل، بأنّها سينما المراجيح والملاهي فهي لا تقدم فناً حقيقياً، ولكنها تأخذ المشاهد في رحلات خيالية افتراضية لعوالم خرافية يكون البطل الحقيقي فيه هو: أجهزة الكمبيوتر، وقريباً الذكاء الاصطناعي، في كل عناصر العمل: من تصميم الملابس واختيار الماسكات وتصميم المناظر المعدّة سلفاً بالكمبيوتر، إلى درجة تصل إلى تنفيذ التصوير بإستديو أمام خلفيات ضخمة خضراء اللون تسمى بالكروما، ومن ثمّ يتم تفريغ مواد التصوير داخل المناظر المصممة بالكومبيوتر لتصبح الصورة مكتملة الأركان.
هكذا، سنجد تسمية سكورسيزي لهذا النوع من السينما حاضرة بقوة، فالمخلوقات أسطورية تطير في الهواء، في أجواء بصرية مبهرة وشديدة التعقيد بمؤثرات سمعية موحية، ولكن هذا لا يقدم فكراً أو فناً، أو قل على وجه الدقة لا يقدم سينما حقيقية. وهذا يقودنا إلى جدل عبثي سيطر على الحياة الثقافية والفنية في ستينيات القرن المنصرم لمصرنا الحبيبة: هل الفن للفن أم أنّ الفن للمجتمع؟ بل ونزيد عليه في حالتنا اليوم: هل الفن هو هذا التسطيح الافتراضي، الذي يجني من ورائه منتجو هوليوود الأموال الطائلة في مقابل محاصرة السينما الحقيقية كما ذكرنا.
فصرنا نجد فناناً بحجم سكورسيزي، مع رفاقه روبرت دي نيرو وآل باتشينو وجو بيشي يعانون أشد المعاناة في تنفيذ فيلم "ذا أيريش مان"، وتمتد هذه المعاناة إلى صعوبة طرحه في دور العرض، بسبب اضطراره إلى الرضوخ لشروط منصة نتفليكس، التي تفضل عدم عرض إنتاجاتها في دور السينما. وهذا أيضاً من معاول الهدم لفن السينما والتي سنتعرض لها لاحقاً بمقال منفصل.
مع ذلك، لم يستسلم سكورسيزي بكل ما له من سطوة وتاريخ كبير، وفرض عرض الفيلم، ولو بشكل محدود، في دور العرض السينمائي، على الرغم من أنّ ذلك لا يخلق الزخم الجماهيري المطلوب لعمل بهذا الحجم، فضلاً عن أنّ الشركة وافقت بشكل استثنائي من أجل سكورسيزي ورفاقه.
وفي النهاية، تظل الدائرة تضيق أكثر فأكثر، ويظل السينمائيون الحقيقيون قابضين على حلمهم، رافضين التحول إلى عالم مارفل، أو الرضوخ لسينما الهمبكة.