استمع إلى الملخص
- **نظام الكفيل والتحولات في الخليج**: نظام الكفيل كان يفرض قيوداً كبيرة على العمالة الوافدة، لكن دول الخليج بدأت بالتخلص منه في العقد الأخير تحت ضغوط غربية وأممية.
- **الفيلم كعمل فني وردود الفعل السياسية**: "حياة الماعز" هو عمل فني وليس وثيقة سياسية، وتسييس ردود الفعل عليه يعكس ذهنية ما قبل الدولة، وكان يمكن معالجة القضية بطرق حديثة.
من يقرأ ردود الفعل السعودية على فيلم "حياة الماعز" الذي تبثه منصة نتفليكس، فقد يظن أن السعودية تتعرّض لهجوم نووي غادِر، يُوجب الاستنفار والرد بكل سلاح توفر، علماً أنه مجرد فيلم متواضع المستوى، ويعاني مشكلات كبرى في البناء الدرامي، وإن كانت جرعته العاطفية عالية، وهذا شأن صناعة الأفلام الهندية في عمومها.
أُنتج الفيلم بميزانية قليلة جداً (نحو 1.1 مليون دولار أميركي)، وصُوّر في الأردن (منطقة وادي رم) والجزائر في منطقة الصحراء، ومنطقة كيرلا في الهند، ما بين عامي 2018 و2022، ويتناول قصة العامل الهندي، نجيب، الذي يسافر إلى السعودية للعمل، فيتعرّض ورفيقه لخديعة قذرة تجعلهما في عهدة سعودي لا علاقة له بكفيلهما الأصلي، وهو رجل جلف يسومهما سوء العذاب، ويجبرهما على العمل كالعبيد بل أسوأ، في مكانين منفصلين، راعيي مواشٍ في الصحراء.
القصة تشبه آلافاً أخرى مرّ بها عمّال آسيويون وعرب وأجانب ليسوا غربيين، في منطقة الخليج بأسرها، وإن بدرجات متفاوتة، بعد الطفرة النفطية والتوسع المهول في استقدام العمالة الوافدة، ما أنتج تحوّلات كبرى في المجتمعات الخليجية لم تواكبها تشريعات قانونية تستجيب لها، ومن ذلك أن نظام الكفيل ظل التشريع الوحيد الذي يتعامل مع هذه العمالة لعقود، وهو عملياً مليء بالتقييدات على الوافدين لصالح أرباب العمل.
ومعلوم أن دول الخليج، كلها أو بعضها، بدأت بالتخلص من هذا النظام في العقد الأخير، بضغوط غربية وأممية، أو جراء صعود نخب حاكمة جديدة أقرب إلى لغة العصر. لذلك، مهاجمةُ الفيلم لأنه عاين إحدى قصص "الكفيل" الكارثية تتعارض مع الحقائق التي اعترفت بها هذه الدول وسعت إلى تغييرها، نظراً إلى تكلفتها الفادحة عليها وعلى صورتها ومكانتها الجديدة التي تسعى إليها في العالم. كما أن إدراجها في سياق يرى أن السعودية مستهدفة سياسياً، يبدو أقرب إلى ردات فعل الجماعات البشرية في حقب ما قبل الإجماع والدول، ومنطق كهذا يرسّخ صورةً قرو-أوسطية أُلصقت بدول الخليج، باعتبارها تجمعات سكانية لأثرياء لا ينتمون إلى العصر، تصدر أفعالهم عن دوافع غرائزية وبدائية، وهي صورة متعسفة ساهم بعض أبناء المنطقة في إشاعتها وترسيخها للأسف.
"حياة الماعز"، قبل هذا وذاك، عمل فني وليس وثيقة سياسية، وشروط الفن تختلف جذرياً عن إكراهات السياسة، ولا تخضع لها، لكن تسييس ردود الفعل الناقمة عليه يؤكد أن ذهنية ما قبل الدولة ما زالت تحكم المدافعين عنها، رغم أنه (الفيلم) مأخوذ عن قصة حقيقية، وأن توقيت بثه لا علاقة له بهدف سياسي آني يستهدف السعودية أو سواها. والأسوأ، أن ردود الفعل هذه تكشف فداحة تغييب وسائل التعامل الحديثة التي تلجأ إليها الدول في معالجة المشكلات التي قد تطرأ وتسيء إليها، إذ كان بالإمكان البحث عن بطل القصة الحقيقية في الهند، وهو حي يرزق، والاعتذار رسمياً منه، ودفع تعويضات مناسبة له بقرار من أي محكمة سعودية، من دون إشعال حرب على منصة إكس للرد على من يستهدف البلاد، فإذا هم دول وجماعات كارهة وحاقدة. في مقابل من وجد في الفيلم فرصة للنيل من الشعب السعودي وحاكميه، والسعي إلى وضعهم في صراع مع دول مجاورة باعتبارها موّلت إنتاج الفيلم، وهذا ليس صحيحاً، أو شارك بعض فنانيها فيه، وهذه سخافة، أو وفرت مكاناً لتصويره، وهذه حماقة أعيت من يداويها.
هذا كله لم نره إزاء فيلم "أقوى أمير في العالم"، وهو وثائقي من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، يتناول صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. فيلم لا جديد يُعتدّ به معلوماتياً ولا على صعيد الصورة، ويتضمن مغالطات بعضها أقرب إلى الخزعبلات وخيال ألف ليلة وليلة في مقاربة قصص القصور والحكّام، ومنها أن ولي العهد السعودي كان يعتزم اغتيال عمه الراحل الملك عبد الله بخاتم مسموم جلبه من روسيا.
وإذا كان توقيت بث هذا الفيلم ليس بريئاً على الأغلب، وقد تكون وراءه دوافع سياسية للضغط على القيادة السعودية في هذا الشأن أو سواه، فإن هذا لا ينطبق على "حياة الماعز" الذي يقارب مأساة إنسانية لا يمكننا إلا التعاطف معها، في كل حال وحيثما حدثت ووقعت.