الحرب على لبنان: التقاط نبض عيشٍ في الخوف بأنماطٍ سينمائية مختلفة

27 سبتمبر 2024
كاترين دونوف وربيع مروة العرض الأول لـ"بدي شوف" بيروت أكتوبر 2008 (جوزيف براك/فرانس برس))
+ الخط -

لكلّ حربٍ نتائج وتأثيرات، بينها إنتاجٌ سينمائيّ تتفاوت قِيَمه الفنية والتقنية والدرامية والجمالية، وهذا طبيعي. للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) أفلامٌ، روائية ووثائقية، والغلبة للنوع الثاني، وبعضه مُنجز في أعوامها المريرة، وبعض آخر في اللاحق على نهايتها المزعومة. حروب إسرائيل ضد لبنان تُضاف إلى التدخّل الإسرائيلي في حربه الأهلية، دعماً سياسياً وعسكرياً وأمنياً لمليشيا اليمين اللبناني. لهذه الحروب أفلامٌ أيضاً، لكنّها منصرفةٌ عن العامل الإسرائيلي، المباشر (حروبٍ متكرّرة) وغير المباشر (الدعم متنوّع الأشكال لأطرافٍ من دون أخرى)، ولهذا نقاشٌ آخر.

بعض تلك الأفلام يُركّز على حرب تموز (12 يوليو/تموز ـ 14 أغسطس/آب 2006)، السابقة على حربٍ جديدة، تندلع بُعيد اغتيال إبراهيم عقيل، القيادي في حزب الله (20 سبتمبر/أيلول 2024)، التي (الحرب الجديدة) تتفوّق على سابقتها إجراماً ووحشية.
وإذْ تواكب أفلامٌ عدّة يوميات تلك الحروب، مُصوّرةً إياها لحظةً بلحظة أو بعد وقتٍ على انتهائها، يُطرح سؤال، وإنْ يبدُ باكراً، عن كيفية التعامل السينمائي مع الحرب الجديدة التي لها مقدّمة طويلة، تبدأ غداة "طوفان الأقصى" في قطاع غزّة (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023). والسؤال، رغم أنّ طرحه سابقٌ لأوانه كثيراً، يمهِّد لاستعادة أفلامٍ قليلة، تُصبح مرايا واقع، وشهادات توثّق تفاصيل العيش في جحيم الحرب الإسرائيلية، وبراعة لبنانيين ولبنانيات في ابتكار كلّ أصناف الدعم والمساعدة المدنية لمهجّرين ومهجّرات من قراهم وبلداتهم وأراضيهم ومنازلهم، في وسط بيروت، أو في غيره من أمكنةٍ.

تساؤلات أخرى تُطرح، رغم تكرارها: أيجوز، سينمائياً، تصوير اللحظة الملتهبة عند حدوثها، أمْ أنّ السينما محتاجةٌ إلى وقتٍ للتأمّل والتفكير ومعاينة الوقائع بهدوء، لاستنباط فيلمٍ يمتلك شرطه السينمائي، ويقول ما يرغب صانعه/صانعته في قوله؟ أيكون الوثائقي (والتسجيلي، كما الريبورتاج التلفزيوني) سبّاقاً في التقاط تلك اللحظة، بتفاصيل جمّة فيها، عند حدوثها؟ هل يتمكّن الوثائقي تحديداً، المستند إلى لغة سينمائية ما (إنْ أمكن ذلك)، من إيفاء مادته الدرامية/الجمالية حقّها في قول المُراد؟ أمْ يُفضَّل انتظار وقتٍ للتأمّل والتفكير، فيكون الوثائقي والروائي أنضج وأهدأ في استعادة لحظة خراب وغضب وقهر ومواجهة؟

حربٌ إسرائيلية جديدة على لبنان تُقدّم نموذجاً آخر عن مدى وحشية التنين المتفلّت من كل قيد وعقاب. ورغم أنّ تشابهاً في النتائج (الأولى على الأقلّ) لتلك الحرب مع سابقاتها، لن يكون طرح سؤال كيفية مقاربة السينما لها غريباً، وإنْ يكن باكراً. وهذا غير حائلٍ دون استعادة أفلامٍ لبنانية عن حرب تموز تحديداً، فأفلام لبنانية أخرى، روائية ووثائقية، حاضرة في أرشيف الذاكرة، لكنّ مقارباتها حروب إسرائيل ضد لبنان جزءٌ منها، لا أساسها، وأحياناً تكون في هامشٍ أو تفصيلٍ جانبي، في سياق قراءة حربٍ أهلية، أو تأثيرات نتائجها المتأتية منها، ومن السلم الأهلي الهشّ والناقص.

بداية الاستعادة متمثّلة بأحدث إنتاج: "جدار الصوت" (2019) لأحمد غصين ("العربي الجديد"، 29 و31 يناير/كانون الثاني 2020)، وعنوانه باللغة الإنكليزية مختلفٌ تماماً، رغم صلته الوثيقة بالمُعمَّق في سرديّته: "كلُّ هذا الانتصار". أول روائيّ طويل لغصين يستعيد حرب تموز، عبر مروان (كرم غصين)، الذي يُصرّ على الذهاب إلى قريته الجنوبية في لحظات قصفٍ واجتياح إسرائيليين، لإقناع والده بالعودة معه إلى بيروت، بعيداً عن الخراب في الجنوب اللبناني. حكاية بسيطة، تتشابه في عائلات لبنانية كثيرة. لكنّها، في "جدار الصوت"، تخرج من عاديتها وبساطتها وواقعيتها، لتكشف سيرة مقاومة لبنانية قديمة، وذاكرة مليئة بخيبات ومواجهات، وأوجاعاً غير منتهية لأناسٍ يُتقنون فعل المقاومة، لكنّ آلامهم كبيرة وغير محتملة.

عن ذاكرة وراهنٍ، يحاول "جدار الصوت" تفكيك مفاهيم مفروضة على اللبنانيين، انطلاقاً من فكرة تحويل كلّ شيء سلبيّ إلى انتصارات مُكلِفة. وهذا يبدأ مع وصول مروان إلى قريته المدمّرة تلك، بحثاً عن والده، فيُحاصَر في منزل عجوزين (عادل شاهين وبطرس روحانا)، صديقي والده المختفي، فيدور كلامٌ وتُطرح أسئلة وتُستعاد ذاكرة، في مناخ ضاغط ومخيف (جنود إسرائيليون يحتلّون المبنى الذي يُقيم فيه هؤلاء، من دون إدراكهم أنّ في الطابق الأرضي أناساً) بحضور رجل وامرأته (عصام بوخالد وسحر منقارة) يهربان من منزلهما الكائن في أطراف القرية.

أمّا "بدّي شوف" (2008)، لجوانا حاجي توما وخليل جريج، فيرتكز على حكاية ممثلة مشهورة (كاترين دونوف) تزور لبنان مع اندلاع حرب تموز نفسها، فتطلب من سائق سيارة أجرة (ربيع مروّة) جولة في الجنوب اللبناني، بحثاً عن ذاكرةٍ وتاريخ. جولة تؤكّد رغبة الممثلة في أنْ ترى الحاصل واللامرئي معاً، والعنوان (أريد أنْ أرى) انعكاسٌ لتلك الرغبة المعتملة فيها: رغبةٌ في أنْ تُزيل أقنعةً وأغطية عن واقع وماضٍ وعلاقاتٍ، كي ترى المخبّأ والمبطّن كما ترى الظاهر والمُعلن، في حربٍ مندلعة في جغرافيا ونفوس.

قبل عام على إنجازه، يُخرج فيليب عرقتنجي ثاني روائي طويل له بعنوان "تحت القصف" (2007)، بعد "البوسطة" (2005). ورغم أنّه سابقٌ على "بدّي شوف"، يمتلك "تحت القصف" أساسَين متشابهين معه: رحلة امرأة في الجنوب غداة انتهاء حرب تموز، رفقة سائق سيارة أجرة.

لكنّ رحلة عرقتنجي مختلفةٌ تماماً عن تلك التي يقوم بها الثنائي حاجي توما ـ جريج، مع الفرنسية كاترين دونوف، لأنّها (الرحلة) معقودةٌ على بحثٍ مؤلمٍ لأمٍ (ندى أبو فرحات) عن ابنها المفقود في تلك الحرب، بمساعدة سائق سيارة أجرة أيضاً (جورج خبّاز). التجوّل في جنوبٍ مدمَّر كشفٌ لشيءٍ من دمار يعتمل في أناسٍ، يريدون عيشاً لكنّهم يواجهون موتاً.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

في الوثائقيات، هناك "33 يوم" (2007) للفلسطينية مي المصري، وفلسطينيتها مُعبّأةٌ بلبنانيةٍ منبثقة من عيشها في البلد واهتمامها السينمائي والأخلاقي والثقافي والحياتي به وبشعبه وبلاجئين فلسطينيين فيه، ومن زواجها باللبناني جان شمعون، المهموم بفلسطين ولبنان أيضاً. في وثائقيّها هذا، المُصوّر زمن الحرب الإسرائيلية نفسها (2006)، ترافق المصري شباباً يعملون في المسرح والميديا والطوارئ، ويهتمّون بلاجئين ولاجئات من الجنوب، مستعرضةً فيه أحوال بيئةٍ وحالات أفراد، وفقاً لمسارٍ تاريخي سابق، لعلّه يبدأ مع اغتيال رفيق الحريري، الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية، في 14 فبراير/شباط 2005. لكنّ الأهمّ في "33 يوم" كامنٌ في التقاطه نبض مدينة (بيروت) وغليان أناسٍ وتفكير أفراد وواقع عيشٍ، كعادة الاشتغالات الوثائقية للمصري ـ شمعون.

المساهمون