لا يُعرف بعد أي جرأة قادت مخرجاً مغموراً لإنتاج فيلم متواضع عن واحدة من أكثر الروايات فرادة في تاريخ النثر المصري (الحب والصمت، لعنايات الزيات). الرواية صعبة سينمائياً، فهي ليست أحداثاً تتطوّر أو تتشظّى، بل مشاعر تتعمق وتتكثّف، وتدور حول الموت والانسراق إليه، وليس مقاومته: عن اللاجدوى في الحياة والكآبات السوداء التي تقود إلى الموت وتستدعيه.
الرواية يتيمة كاتبتها، وصدرت بعد أن وضعت الزيات حدّاً لحياتها (1936 - 1963) بأربع سنوات، وربما كان رفض إحدى دور النشر لها القطرة التي أفاضت الكأس، فانسحبت كاتبتها بعد ذلك بيومين، ليتبيّن لاحقاً أن ثمة التباساً قد حدث، وأن ما رُفض كان كتاباً آخر.
تدور الرواية حول فتاة صغيرة في السن تتخرج من المدرسة الفرنسية. العائلة ثرية جداً، والأب من إقطاعيي حقبة الملكية. الفتاة، منذ الصفحة الأولى للرواية التي تعتمد تقنية الأنا -الراوي، تبدو مكتئبة. وإذ تقف وراء زجاج نافذة غرفتها لتراقب الطريق، لا ترى الشارع إلا خالياً، ونوافذ البيوت "ميتة"، فلا حياة ولا حركة؛ ذلك أن الزمن توقف بموت شقيقها الحبيب.
إنها في الثامنة عشرة، ورغم ذلك فإنها تشعر بأنها هرمة، فما جدوى حياتها، بل الحياة كلها ما دام، شقيقها قد رحل؟ لقد حوّلها الموتُ ووالديها إلى ثلاثة غرباء يعيشون في بيت واحد. الأم كثيرة الصمت، وعندما تكلمها ابنتها تشعر الأخيرة بأنها تنظر من خلالها لترى شخصاً آخر، فلماذا نولد ونعيش ثم نموت إذن؟
هذه التساؤلات تقود الفتاة إلى العزلة وتفصلها عن الآخرين، وتجعلها تشك بأنها تحيا فعلاً، وأنها موجودة أصلاً، وتشعرها بأنها عاشت هذه الحياة من قبل، فلم وُجدت مجدداً؟ كأنها انفصلت عن وجودها وخرجت من داخلها وأصبحت بلا جسد.
صدرت الرواية عام 1967، بتقديم كتبه مصطفى محمود، وتشكل اقتباساته من الرواية أكثر من تسعين في المائة من التقديم الذي يصف فيه الكتاب بـ"الغريب" ومؤلفته بـ"الملهمة". ويقول إن آلام قلب الكاتبة "العبقري" وإنسانيتها المعذبة كانت فوق احتمالها.
كُتبت الرواية عام 1963، بينما تدور أحداثها القليلة قبل الانقلاب على الملكية بسنوات قليلة، وتنتهي مع بداية زحف دبابات الضباط على القاهرة. لكن هذه الأحداث تبدو مجرد خلفية باهتة لرصد مشاعر الفتاة التي تنفصل عن الواقع مرتين: مرة لانتمائها الطبقي، وأخرى بسبب كآبتها الحادة. ولا يحضر الحدث السياسي إلا مقترناً بالكاتب الذي أغرمت به الفتاة الشابة، والذي يعمل في إحدى صحف المعارضة. وقد شكلت علاقتها به مختبراً لمشاعرها وعاملاً مساعداً لحسم خياراتها في الانتقال من حالة الانفصال عن الواقع واضطراب المشاعر إلى محاولة الوقوف على الأرض، وإنْ بقدمين مرتجفتين، والالتحاق بكلية الفنون، ليكون الفن متنفساً لمشاعرها، وجرى هذا بالتوازي مع التطورات السياسية في البلاد التي كانت تعيش مخاض الانتقال من الملكية إلى الثورة.
الأكثر أهمية في الرواية هو المشاعر وليس الأحداث، فشخصيات الرواية قليلة، وتتحرك على إيقاع بطلتها. هناك نادية صديقة البطلة منذ الطفولة، وهي على الأغلب الفنانة نادية لطفي، أو للدقة إحدى احتمالاتها المتخيّلة، وهي صديقة الطفولة للكاتبة نفسها، وتحتل حيزاً أكبر في كتاب إيمان مرسال "في أثر عنايات الزيات" (2019) والذي سنأتي على ذكره لاحقاً. وهناك الأب والأم، وحضورهما سلبي في حياة البطلة، إضافة إلى أحمد الكاتب المعارض الذي يموت في نهاية المطاف مثل كل الذين تحبهم الشابة صغيرة السن.
بين هؤلاء عاشت نجلاء، أو لنقل الكاتبة نفسها عنايات الزيات، حياتها القصيرة، بمشاعرها المضطربة، وانفصالها عن الواقع. تسعى إلى ألا تُرى حتى في اختيار ملابسها الباهتة الألوان، رغم أنوثتها المتفجرة. تريد أن تتوارى، رغم ثرائها والحماية الكبيرة التي كانت تحيط بها، وتدفعها إلى صدارة المجتمع الأرستقراطي في مصر الملكية. تندفع إلى الموت بقوة غامضة، عنيدة، ولا تقاوم، وهو ما لم يلامسه الفيلم (1973) الذي اقتُبس عن الرواية، بل حوّل ذلك الألم المكثف والكآبات السوداء إلى مادة طريفة لا تسيء إلى الرواية، بل إلى فن السينما نفسه، فأية جناية هي تلك التي مثّلها الفيلم؟ وأي أذى ألحقه بالرواية وكاتبتها؟