البوظة السادة... استعادة سياسية للمشروب المنقرض

15 اغسطس 2021
أثير الأمر إثر جدل رفع الدعم عن الخبز في مصر (Getty)
+ الخط -

الشيوخ والعجائز الذين عاشوا قديماً في المناطق الشعبية الغارقة في الفقر، هم وحدهم من يعرفون "البوظة"، أما معظم الأجيال الجديدة من المصريين؛ فلا يعرفون ذلك الشراب الذي تحدث عنه الشيخ أحمد كريمة، حين ذكر أن الناس في الأرياف تستخدم فائض الخبز المدعم في صناعة مشروب البوظة المحرم شرعاً. وذلك من أجل مساندة السيسي الذي أعلن رغبته في إلغاء دعم الخبز. وبهذا تحظى عملية رفع الدعم بدعم شرعي! 

هذا التصريح أثار موجة من السخرية في أوساط المصريين، الذين يعرفون جيداً مغزى أن يخرج أحد المشايخ المشهورين ليبرر سياسات السلطة. والمعروف أن البوظة التي أشار إليها قد بدأت في التلاشي من حياة الناس منذ أكثر من نصف قرن، بعد دعوات تحريمه المتتالية، كما أن ذيوع فكرة الخطر على الصحة العامة، ثم عدم منح الحكومات لتراخيص بيع تلك البوظة قد جعل كثيراً من الناس يرغبون عنها، فظل تداولها في نطاقات شعبية ضيقة جداً، ولم يعد لها وجود في حياة معظم الناس. 

بعض الكتاب والمؤرخين والمستشرقين حتى منتصف القرن الماضي حفظوا شيئاً من علاقة المصريين بالخبز خلال القرنين السابقين

البوظة التي يعرفها جيل الشباب حالياً هي عبارة عن مشروب آخر ثقيل وحلو يشبه الآيس كريم، وهو غير مسكر، ويصنع من الدقيق واللبن والسكر. و"البوظة" كلمة فارسية الأصل بالرغم من أن لهذا المشروب أصولا فرعونية. ووفقاً للدكتور مجدي نزيه رئيس وحدة التثقيف الغذائي أنه في بعض المناطق الشعبية وفي الصعيد تصنع البوظة المخمرة من لبابة العيش أو الخبز المخمر، في تقنية تشبه تقنية التصنيع المصرية القديمة. مشيراً إلى أن هذا النوع من التصنيع مضر جداً لأن ترك الخبز حتى مرحلة التعفن يعني كثرة السموم الفطرية "الأفلاتوكسين"! لكن بسؤال عدد من أهل الصعيد أجابوا بأنهم لا يعرفون عن ذلك شيئاً، وأنه ربما كان المقصود مشروباً آخر يسميه أهل الصعيد "الثوبيا" وهو غير مسكر حيث لم يمر بمرحلة التخمير الكامل! 

بعض الكتاب والمؤرخين والمستشرقين حتى منتصف القرن الماضي حفظوا شيئاً من علاقة المصريين بالخبز خلال القرنين السابقين، ففي كتاب (قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية) ذكر الأديب أحمد أمين (1886-1954) أن البوظة هي خمر الشعير في الغالب، حيث يُنقع الشعير في الماء مدة، ثم يخرج يجفف في الظل، ثم يجفف في الشمس، فإذا جف يدق، ويضاف إليه الماء، ويترك في المواجير حتى يختمر، وهو مُسْكِر ثقيل، ويشربونه غالباً في الأواني الفخار، وتسمى كل آنية قَرعة، ويتخذ الشاربون لها مزة من اللحم المسلوق مع بعض الفلفل والملح. وأهالي السودان يأكلون معه الكرشة والفشة والقلب، وهي أشياء تستخرج من الذبيحة عند ذبحها، وتنظف وتدعك دعكاً جيداً بالملح والشطة، ويأكلونها نيئة مع البوظة. 

أهل سورية يسمون الداندرمة بوظة، وكثيراً ما حصلت من جراء ذلك مفارقات مضحكات سببها جهل المصريين باستعمال السوريين لنفس اللفظ 

أما عن المكان الذي يشرب فيه البوظة، فهو يشبه المقهى لكن بمواصفات خاصة يصفها أحمد أمين فيقول: "العامة تسمي موضع البوظة بوظة أيضاً. وهو مكان وخم، وجلاسه وخمون. يجلس أصحابه على حصر، مع جيوش الذباب. مما يعف على مواجير البوظة، ويتردد إليها بعض النساء الساقطات فيثرن الشهوات، وينطق الرجال إذ ذاك بألفاظ الفحش البذيئة، وتكاد تكون البيرة ضرباً خفيفاً منها استعمله المدمنون".  

وهناك مفارقة مهمة يشير إليها أمين وهي أن أهل سورية يسمون الداندرمة بوظة، وكثيراً ما حصلت من جراء ذلك مفارقات مضحكات سببها جهل المصريين باستعمال السوريين لنفس اللفظ بينما هم يخلعونه على منتج آخر، في حين لم يكن المصريون يعرفون سوى البوظة السادة التي يسكر بها بعض الناس. 

هناك مشروب ألماني قديم كان يناظر البوظة يسمى "هرز براي"، لكن انتشار القهوة التركية في ألمانيا قضى على هذا المشروب

المستشرق الإنكليزي إدوارد وليم لين (1801-1876) يذكر مجتمع البوظة في أكثر من موضع في كتابه "عادات المصريين المحدثين وشمائلهم"، فيقول إن النوبيين يفرطون في شرب البوظة وعرق البلح والتدخين، كما يقدم وصفاً لتلك الأماكن التي عاينها مثل مكان لشرب البوظة في قرية مطوبس التي تقع في فم ترعة المحمودية. أما المستشرق الألماني جورج ياكوب (1862-1937) فيخبرنا أن هناك مشروبا ألمانيا قديما كان يناظر البوظة يسمى "هرز براي" مشيراً إلى أن انتشار القهوة التركية في ألمانيا قضى على هذا المشروب. بينما المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه (1875-1938) يلفت النظر إلى أن البوظة قد وصلت إلى الحجاز عن طريق تجمعات الأفارقة التي انتقلت إليها وعاشت فيها.
 
كذلك يمكن مصادفة مشروب البوظة في أعمال الروائيين المصريين حتى النصف الثاني من القرن العشرين، وبعض تلك الأعمال تحول إلى أفلام سينمائية شاهدنا فيها فريد شوقي وهو يذهب إلى البوظة في فيلم "الكرنك"، ومحمود الجندي يتردد على الخمارة ليشربها في فيلم "التوت والنبوت" وغيرهما. ويقول محمد جبريل في كتابه (مصر المكان: دراسة في القصة والرواية) إن البوظة عند بعض الروائيين هي المكان الذي ندفع فيه مقابلا بسيطة لنسيان همومنا. وفي عالم نجيب محفوظ الروائي يبرز مكان البوظة مقابل الجامع في دلالة على المواجهة بين الخير والشر، كما في رواية "الحرافيش"، فالبوظة هي المظهر البارز للفساد الذي يضرب أهل الحارة.  

دلالات
المساهمون