"البرابرة" لجولي دلبي: أسلوب ساخر في انتقاد العنصرية

09 أكتوبر 2024
"البرابرة": انتقاد حالةٍ بأداءٍ بسيط وتلقائيّ (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التباين في استقبال اللاجئين: يسلط الفيلم الضوء على التباين في استقبال اللاجئين السوريين مقارنة بالأوكرانيين في قرية فرنسية، حيث يواجه السوريون أفكارًا مسبقة وسلبية تتعلق بثقافتهم ودينهم، مما يخلق توترًا في المجتمع.

- تنوع الشخصيات وتفاعلها: يعرض الفيلم شخصيات متنوعة تتفاعل بطرق مختلفة مع وصول العائلة السورية، حيث تلعب الشخصيات النسائية دورًا محوريًا في محاولة دمجهم، بينما تتصارع شخصيات أخرى بين التقبل والتمسك بالأفكار المسبقة.

- الكوميديا لمعالجة القضايا: يستخدم الفيلم الكوميديا الساخرة لمعالجة قضايا حساسة مثل العنصرية والاندماج الثقافي، مقدماً رؤية إنسانية ومعقدة للعلاقات بين اللاجئين والمجتمع المضيف.

 

كيف سيتلقّى سكّان قرية في غربيّ فرنسا وصول عائلة سورية؟

يحيل السؤال فوراً إلى مسألتي الهجرة والمهاجرين، بالأحرى إلى نوع أولئك، المقبول منهم والأقلّ قبولاً، أو الواقع بينَ بين، هذا الذي يُنظَر إلى مجيئه برأفةٍ، لكنْ بحذر أيضاً. إلى هؤلاء تنتمي العائلة السورية. السوريون، قليلو العدد نسبياً في فرنسا، يخضعون لأفكار مسبقة في الفكر الجمعي، تضعهم في خانة عرب ومسلمين. اليوم، نعلم ما يعني ذلك. من ثم، هم في مكانة غير تلك التي يحظى بها مهاجرون أوروبيون، الأوكرانيون مثلاً، رحّبت بهم الدولة والمواطنين بحماسة، وسَهّلت سبل العيش لهم.

الربط بين الموضوعين، وإنْ عابراً، فكرة ذكية ارتكز عليها "البرابرة" (2024) للفرنسية جولي دِلبي. لكنّ المخرجة لم تتعامل مع حلول أسرة غريبة في بيئة مغلقة بجدّية طبعت "شجرة البلوط العتيقة" (2023) للبريطاني كِن لوتش، المشابه في موضوعه، بل طبعته بروح دعابةٍ ساخرة، جعلته مُمتعاً وفعّالاً في الوقت نفسه. تمثّل ذلك في أسلوب معالجتها سلوك فرنسيين وأفكارهم، كانوا ضد فكرة الترحيب باللاجئين، وفي طرحها فكرة العنصرية بدرجاتها المتفاوتة، كما نقيضها، من دون تحفّظ. فالمخرجة تعتبر أنّ تحديد هويتها يتأتّى عبر تفكيرها النقدي والتعبير بحرية.

استهلّ "البرابرة" بالغمز من جهة الكيل بمكيالين، والتحلّي بالإنسانية فقط حين تتناسب مع معايير شخصية نسبية. بيّن هذا الفرق بين استقبال "نوعين" من اللاجئين، حين خُصَّ الأوكرانيون بحفاوةٍ من الدولة والمواطنين، وأبدت قرى صغيرة (نموذج عنها حاضرٌ في قرية الفيلم) حماسة للعب دور وطني وإنساني، تمثّل في طلب استقبال عائلة منهم.

بما أنّ البلدية، ومن ثم سكّان القرية، ستتولّى النفقات، طُرح الأمر على مجلس القرية للتصويت، ففي هذا المكان الصغير يسيطر الانسجام، وكلّ شيءٍ يُناقَش ديمقراطياً. الصدمة كانت في احتواء جميع المهاجرين الأوكرانيين، وعدم بقاء عائلة للتوجّه إلى القرية، حلّت العائلة السورية بدلاً منها. لكنْ، في هذه القرية اللطيفة، لا ينظر السكّان بعين حسنة حقاً إلى قدوم هؤلاء الغرباء، الذين لا يعرف معظمهم موقع سورية على الخريطة، أو شيئاً عن سكّانها، سوى أفكار مسبقة، كالحجاب والحلال والحرام، والعلاقة مع النساء، ووضع المرأة. أفكار مسبقة سلبية، ستعكّر صفو الحياة في قريتهم. يشار إلى هذه التفاصيل في حوار عابر بين الشخصيات، وفي بعض المواقف.

 

 

القرية، وإنْ كانت صغيرة ومكاناً مُغلقاً، بدت متنوّعة في شخصياتها. أحسنت دِلبي استغلالها كي لا تَظهرُ شخصياتٍ مختارةً بعناية مفتعلة، فتلاءمت مع المكان وسياق السرد. كأنّها، في حيّزها الجغرافي الطبيعي، تؤدّي فيه أدوارها في الحياة. كما وازنت بين الشخصيات وأهوائها. بين الرجال الفرنسيين، هناك البقّال اللامبالي والمكروه من قبل الآخرين، والسبّاك العنصري المنتفخ بغروره، وصاحب المزرعة الحكيم الساخر، ورئيس البلدية الواقع بين المطرقة والسندان، والشرطي الهارب من المشكلات، وآخر ما يريده قدوم غرباء يذكّرونه بمعاناة الضواحي الباريسية التي كان يعمل فيها قبل انتقاله إلى قرية هادئة. أمّا الشخصيات النسائية، فأدّت أدوراً أكثر انفتاحاً: جولي المُعلّمة (المخرجة نفسها)، إنسانية الدوافع، التي تعطي الدروس لآخرين خارج المدرسة أيضاً، ودورها أساسيّ في إحضار العائلة السورية. آن (ساندرين كيبرلين) تتنازع بين تقبّل اللاجئين وإدراك اختلافهم.

إنْ كانت الشخصيات نمطية، فإنّها تخدم موضوعاً بحدّ ذاته من حيث التعبير عن مواقف متضاربة، استطاعت جولي دِلبي، مع إصباغ حِسّ الطرافة على تعبيراتها وسلوكها، أنْ تُخرجها من نموذجيّتها، بوضعها مثلاً في مواقف ساخرة (السبّاك الذي يتعصّب لنقاء سكّان مقاطعة هو أصلاً ليس منها). كما تخلّصت من عبء نتيجة نمطية بامتياز، يسود الخير فيها، ويعمّ القبول، بموضعتها في مكان وزمان خاصّين، ما ساهم في خلق موقف إنساني طريف، حين أنقذت اللاجئة الطبيبة زوجة السبّاك بتوليدها على الشاطئ. وهذا، مع وجود أهل القرية، ومساهمتهم بتعليقات ومواقف مثيرة للضحك.

بينما لم تكن هناك نقاشات جدّية مُعمّقة عن الموضوع، اتُّكِئَ على حوارات بسيطة، مُفعمة بدعابةٍ وسخرية وإنسانية. الأداء التمثيلي أفضل ما يكون، خلافاً له في فيلم لوتش، الذي لم تُقنع شخصياته السورية تماماً، ومعظمها غير مُحتَرف، لا بتركبيتها ولا بأسلوب أدائها ولا بقصصها. هنا، وهذا ليس سهلاً، كانت العائلة السورية المنفتحة مشغولة على نحو مُقنع، وإنْ كانت هناك مبالغة أحياناً في التشديد على شَبَهٍ بعائلة فرنسية، لناحية التقارب في التفكير وممارسة الحرية (علاقة المُراهِقة السورية مع المُراهِق الفرنسي). قدّم الجميع أفضل أداء ببساطة وتلقائية، وبدت العائلة سورية حقاً، ولا سيما الجَدّ الشاعر (فارس الحلو)، بحضوره الظريف المُحبَّب، والطفلين، والأب (زياد بكري) الرافض للاندماج والمتحسّس من كلّ نظرة وكلمة، خلافاً للزوجة (داليا نعوس) والأخت الطبيبة (ريتا حايك).

كوميديا غير حذرة في إشاراتها، لا تتناول الأمور بالملقط بل تُغمَّس في الصحن إذا جاز القول، خلافاً لما يسود اليوم من صوابية سياسية في الكوميديا الفرنسية. ينجح "البرابرة"، من دون إعطاء رسائل وإرشادات، في تناول موضوع حسّاس من دون تبسيطه أو شيطنته

المساهمون