الاحتضار الطويل للدراما الأردنية

15 اغسطس 2023
أثار فيلم "بنات عبد الرحمن" جدلاً واسعاً عند صدوره (فيسبوك)
+ الخط -

اختتمت قبل أيام فعاليات مهرجان جرش للثقافة والفنون الذي تأسّس عام 1981، وكان من أشهر المهرجانات العربية قبل أن ينتكس، ويتحوّل إلى فعاليات فنية يمكن أن تقام في أحد الفنادق. لكن، يمكن اعتبار الدورة الأخيرة للمهرجان بمثابة انطلاقة جديدة تؤسّس لدورات أكثر تمثيلاً لفكرته الأولى، حيث المهرجان ثقافي وفني وذو صلة وثيقة بالمجتمع المحلي وثقافات المنطقة والعالم، أي باعتباره تظاهرة ثقافية في الأساس، تتفرع عنها فعاليات غنائية، وليس العكس، حيث درجت العادة منذ سنوات على أن يكون المهرجان غنائياً مع هامش ضيق للفعاليات الثقافية الحقيقية.

وتلك لا تعني فقط الندوات الشعرية، بل تشمل محاضرات نقدية ومعارض تشكيلية وعروض فرق شعبية عربية وعالمية ومسرحيات تجريبية، وسوى ذلك من أشكال تعبير فنية يصادفها المرؤ في المهرجانات الكبرى.

إذا صح هذا، وهو الأرجح، فإنه يكشف فداحة غياب الصناعة الثقافية والفنية الأردنية في العقدين الأخيرين على الأقل، وعُسر استئنافها من حيث انتهت لأسباب متعددة، أهمها على الإطلاق استقالة الدولة من دورها المفترض في دعم المُنتج الثقافي والفني المحلي، وحذرها من التورط في ذلك بعد سنوات عدة شهدت انهياراً شبه شامل لهذه الصناعة متعددة الأشكال، ومنها الدراما التلفزيونية وملحقاتها، والصحافة المكتوبة. وكانا يرفدان خزينة الدولة بعشرات الملايين من الدنانير سنوياً، ويقدمان، أو يفترض بهما ذلك، صورة عن الأردن مختلفة عن الصورة المكرسة التي تختزله في كونه دولة جيش وأجهزة أمنية، ومملكة صحراوية، وبدواً وفلاحين.

وتلك صورة نمطية مهينة وغير حقيقية، ساهم في تكريسها غياب أو تغييب المجتمع نفسه وتعدديته، وحجب رواية نخبه عن نفسها ومجتمعها، سواء في الدراما أو الصحافة، وتراجع دور الدولة المريع في هذا الشأن.

يعزو البعض تراجع الدراما الأردنية إلى حرب الخليج الأولى، ويرون أن هذه الدراما دفعت ثمن الموقف السياسي، وعوقبت وحوصرت حتى انتهت إلى الانهيار الكبير، وهذا قد يكون صحيحاً جزئياً حينها، لكنّه لا يبرر غياب هذه الدراما بعد ثلاثة عقود على الحرب، وانتهاء مبررات المقاطعة وتقادمها، ممّا يعني أن مرافعات تبريرية كهذه تدل على الخفة في المقاربة، والرغبة المسكوت عنها في الإخفاء.

وأقصد إخفاء الأسباب الحقيقة لهذا الانهيار واستمراره، ومنها كما سلف غياب دور الحكومات الذي يتسم باللامبالاة واللامسؤولية، وذاك ناتج عن ذهنية يعتقد أنها أمنية في الأساس، لا تريد للدراما أن تتناول ما هو راهن ومختلف عليه وحوله، الأمر الذي جعل الدراما منفصلة عن الواقع وحركته، فالدراما التي تحظى بالدعم هي تلك التي تعود بالمجتمع إلى ما قبل تشكل الدولة أو بداياتها، وهي البدوية، أو الساذجة في مقاربتها الكوميدية، لا الجادة التي تتناول الواقع نفسه وما يمور في داخله من تحوّلات وهواجس تتجاوز الصورة النمطية وتهدمها، وتستفز الضوابط الأمنية التي تريد أن تقول لك وللعالم إننا مجتمع متجانس بسيط، بلا مشكلات كبرى.

مشكلة الفنون بالنسبة لأي مقاربة أمنية أنها تنتهك المحظور وتشكك بالمسلّمات وتعرّي البديهيات، وهذا يخلخل الرواية الرسمية، وفي هذه الحالة لماذا تدعم الدولة فنوناً تهدد روايتها نفسها؟

موسيقى
التحديثات الحية

في مطلع هذا العام أتيح للمشاهد الأردني مشاهدة فيلمين على منصتي البث "نتفليكس" و"شاهد"، هما: "الحارة" و"بنات عبد الرحمن"، وكانت ردود الفعل عليهما تؤكد صحة التحليل السابق الذي يلقي باللوم على الذهنية الرسمية التي لا تريد للدراما أن تتحرر من الضبط والربط، في سعيها لتقديم صورة معاصرة وحديثة عن المجتمع، تفكك الصورة النمطية السائدة عن البلاد باعتبارها بلاد أمن وجيش وبدو وفلاحين.

كأن الدولة بهذا تلعب ضد نفسها وتطلق النار على قدميها، لأن الحكومات لا تريد أن تفقد السيطرة على أشكال التعبير الفنية، فتكون النتيجة أن الحكومات تربح والدولة تخسر، وكذلك المجتمع الذي لا تصادف فيه البدو إلا في المسلسلات، بينما هم في الحقيقة طلاب جامعات ونساء عاملات ونخب متميزة لا يقطعون مع أصولهم، لكنهم يتطوّرون ويطوّرون ويتقدمون على خلاف صورتهم في وضحا وابن عجلان ورأس غليص.

آن لمهرجان جرش أن ينهض من كبوته، فهو المقدمة لمنع الانهيار العظيم، أو البشرى للنهوض المرتجى.

المساهمون