من كان يتصوّر أنْ يؤجِّل الممثل الأميركي براد بيت بحزم، ذات يوم، عرض أحد أفلامه الجديدة، بسبب تزامن عرضه مع فيلم النجم الهندي شاروخان، كي لا تُؤثِّر شعبية الثاني على فيلمه؟
هذا يؤكّد مكانة السينما الهندية في وجدان الجماهير العالمية، وقدرتها على التأثير في السينما الأميركية، بعد غزوها الكاسح لجمهورها ومدنها وشركات إنتاجها، وجعلها مقرّات رئيسية للإنتاج السينمائي الهندي بعد مومباي وكالكوتا ونيودلهي التي تحتضن أكبر شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، كـ"إيروس إنترناشيونال" و"تيبيس فيلمز" و"أمير خان للإنتاج" وغيرها.
رغم تربّع هذه المؤسّسات الإنتاجية على عرش الإنتاج السينمائي الهندي، بالرأسمال المادي وبأكبر عدد من الأفلام المُنتجة سنوياً، فإنّ شركة "ياش راج فيلم" التي أسّسها المخرج والمُنتج الهندي ياش شوبرا (1932 - 2012)، في سبعينيات القرن الـ20 في مومباي، تبقى في طليعة الشركات المُؤثّرة في الصناعة السينمائية الهندية.
ورغم الشحّ الإنتاجي السنوي، تبقى الشركة "الأجمل" في الهند، لرهانها على الـ"كيف" مُقابل الكمّ والتسلية والترفيه والاستهلاك لدى المُؤسّسات الأخرى، خاصّة أنّ غالبية أفلامها أنتجها شوبرا نفسه، لاعتنائه بها كثيراً.
منذ بداية الستينيات الماضية، تتغلغل أفلام شوبرا في وجدان المُشاهد، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، التي تُشكّل أكبر مداخيل الإنتاج السينمائي الهندي، وتحديداً دول الخليج العربي التي أصبح بعض مدنها مقرّات جديدة لمؤسّسات هندية في مجال التلفزيون والإشهار ودبلجة المسلسلات. فبمجرّد صدور نسخة هندية من مسلسل ما، وينتهي عرضها في التلفزيون الهندي، يُدبلج ويُسوّق في قنوات عربيّة.
لكنّ شركة "ياش راج فيلم" استمدت شهرتها ومكانتها ليس فقط من أعمالٍ تُنتجها، بل أيضاً وأساساً من المخرج والمنتج نفسه، ومن قدرته على اختيار أفلامٍ مُؤثّرة ذات علاقة وطيدة بالمُتخيّل التاريخي والسياسي والاجتماعي الهندي، ما يجعلها اليوم مُؤثّرة سينمائياً وتجارياً، واضعة شركته في طليعة المؤسّسات الإنتاجية التي تُنافس الاستديوهات الهوليوودية، ودفعها إلى سباقٍ مع النتاج الهندي الذي يكتسح المجتمعات بأفلامه ومسلسلاته وأغانيه وبرامجه، المتناسلة يومياً بشكلٍ هستيريّ، وبطريقة لا تُصدّق، رغم ضعف البرامج التي تثمّن فقط المُنجز الفيلموغرافي وقضاياه، أيْ أنّها إنتاجٌ فنيّ لاحق على الفيلم.
لكنّها، من ناحية أخرى، "مُهمّة" للسينما الهندية، تسويقياً وتجارياً وسياحياً. رافق نجاح شركة "ياش راج فيلم" صعود نجوم السينما الهندية، خاصّة الوجوه الجديدة، التي يظلّ شاروخان أحد علاماتها البارزة، فهو المُفضّل لدى شوبرا، ومعاً حقّقا نجاحات كبيرة على المؤسّسات الإنتاجية الأخرى في الهند وخارجها، بفضل أفلام "ديل تو باغل هي" (1997) و"فير زارا" (2004) و"رابني بانادي جودي" (2008) و"جاب تاك هي جان" (2012) التي حقّقت إيرادات كبيرة للشركة.
وكان "جاب تاك هي جان" الفيلم الأخير في حياة ياش شوبرا، الذي لم يتخلّ فيه (إنتاجاً وإخراجاً) عن القيم العليا والمضامين السياسية المطبوعة بقصص الحب والوطن، علماً أنّ نقّاداً عديدين يلخّصون إنتاجاته السينمائية في كونها قصص حبّ وعشقٍ، تتنصّل أحياناً كثيرة عن ذلك، معتمدةً أبعاداً أخرى، تلتحم بقضايا سياسية في المجتمع الهندي.
رغم رحيل ياش شوبرا قبل 8 أعوام، لا تزال الشركة (يُديرها ابنه أديتيا شوبرا، ومقرّها الإقليمي في دبي) في قائمة أكبر الشركات الهندية التي تغزو الشاشات الخليجية والعربيّة سنوياً، بسبب عدم نجاح الإنتاج الهندي في اكتساح دور السينما الأميركية، عرضاً وتأثيراً في المُشاهد الأميركي، مع أنّها تُهدّدها إنتاجياً بأفلام تتجاوز 1200 عملٍ سينمائي سنوياً، إلى إنتاج مسلسلاتٍ وبرامج، تغذّي السينما الهندية وتجعلها في قلب التلفزيون العربي.
كما أنّ امتعاض ممثلين عديدين في هوليووود من المشاركة في أفلام هندية يُزيد الهوّة بين الصناعتين يوماً بعد يوم، أمام وجوه هندية كثيرة (عرفان خان، بريانكا تشوبرا، نصر الدين شاه، نوبام خير، أوم بورين) ظهرت في أفلام أميركية، وحقّقت نجاحاً مهمّاً، من دون أنْ يُؤثّر هذا في السينما الهوليوودية، أو يُساهم على الأقل في خلق علاقات وشراكات بين هوليوود وبوليوود، خاصّة أنّ المنجز الفيلموغرافي للأجيال الجديدة في الهند يتأثّر بـ"كليشيهات" أميركية، وفضاءاتُها بمسحةٍ هندية، مقارنة بأفلام هندية قديمة، اجترحت لغة سينمائية خاصّة ومتفرّدة، تنهل قصصها وحكاياتها وقضاياها وجمالياتها من المجتمع الهندي، وتاريخه الضارب في القدم.
هذا يجعل المُشاهد العربي يحنّ إلى أفلام قديمة، أصدق تعبيراً عن المجتمع الهندي منذ خمسينيات القرن الـ20. أفلام كهذه تعكس، كرونولوجياً وبقوّة، مسار التحرّر الذي طبع المجتمع الهندي الغارق في العادات والتقاليد، إلى مجتمع أكثر تحرّراً، يجد في المجتمع الإنكليزي صورته الآسرة، بالاستناد إلى شكل مثاقفة مُتباينة مفروضة، تتمثّل بالاستعمار.
هناك اختلافٌ أنطولوجيٌّ كبير بين الإنتاجين الهوليووي والبوليوودي، يجد ملامحه في مفهومي التجريب والنموذج. فالشركات الهوليوودية تدعم كلّ جديدٍ سينمائيّ، يُحاول ابتكار لغة سينمائية جديدة، لغة ومواضيع ووجوه وصناعة، بجعل التجريب قضية مركزية في صناعة السينما، ما أنتج أفلاماً غزيرة ومتنوّعة، قوالب فنية ومقاييس جمالية وأنواعاً فيلمية. وعنصر التجريب الذي بدأ في الستينيات الفائتة مُحاولاً القبض على جوهر الحداثة الفنية في الإنتاج السينمائي الأميركي، جعل شركات الإنتاج تُشجِّع الإبداع السينمائي، المُنفلت من قبضة التقليد، والباحث عن صُوَرٍ وجماليّات مبتكرة، تجد زخمها الفني في المجتمع الأميركي الجديد، المُتعطّش للحداثة، والذي سيسقط سريعاً في الترفيه والاستهلاك مع بداية الثمانينيات الماضية، ويتحوّل إلى مفهوم العمل السينمائي، الذي يحتكم أكثر إلى الطفرة التكنولوجية وتوليفاتها، وإلى متغيّرات الواقع ومفاهيمه الجديدة في السياسة والاجتماع.
السينما الأميركية الجديدة، بحرصها على الواقع الذي تنتمي إليه، تخلّت جوهرياً من علّتها، المُتمثّلة في الرهان على التاريخي والأسطوري والغرائبي الذي طبع الأعمال الأولى، بحيث أنّ اتّساع المكان جعل السينما تتناول الحلم والتخييل، بعيداً عن الواقع الأميركي.
وهذا بالمقارنة مع شركات الإنتاج البوليوودية، المشغولة بالتاريخ والذاكرة والأمجاد والوطنية، رغم أنّها ظلّت تحتكم في تفكيرها إلى سلطة النموذج الهندي، فالأفلام كلّها لا تخرج عن هذا المفهوم الذي لم تستطع الأفلام الهندية، القديمة والجديدة معاً، أنْ تتملّص منه، وتنحت لنفسها آفاقاً جمالية جديدة، بعيداً عن المعالجات والقوالب الفنية الموروثة من أنماط قصص وحكايات بعينها، من دون أيّ تجديدٍ يُذكر.