"مقعدان للموارنة، ومقعد للدروز". "قلم اقتراع للكاثوليك". "تمثل الشيعة في الحكومة". "حقوق المسيحيين". "المرجعيات الروحية". "المحافظ الأرثوذكسي لمدينة بيروت". "الطائفة السريانية". "الغضب السُني". تلك عينات مباشرة حقيقية لمصطلحات طائفية صريحة لا يصعب العثور عليها في الصحف اللبنانية، وتتردد على نحوٍ متواتر على الشاشات.
لست بحاجة لتنتظر الكثير من الوقت حتى تطالعك إحداها على قناة محلية. إذا كنت لبنانياً، ستسأل نفسك فوراً ما الفائدة من استعراض هذه الكليشيهات، فهناك ما يشبه القبول والتسليم بأن هذه هي "الصيغة". والصيغة، كمصطلح، ليس سوى واحد من تلك المصطلحات التي تلعب دوراً أعمق في تكرّيس الخطاب الطائفي. مصطلحات من نوع: المحاصصة، والميثاقية، والتوزيع العادل للحصص، وسجلات النفوس، والمحاكم الشرعية، وغيرها.
وإذا كنت عربياً، فلا بد أنك تملك تصوراً واضحاً عن الطائفية اللبنانية تحديدًا، وفرادتها، بين مجموع "الطائفيات" العربية. هذا "الوِسام" على صدر الإعلام اللبناني آخذ في البهرجة والتألق أخيرًا. ليس فقط اللبنانيون، بل حتى المهتمون من العرب، صاروا يعرفون أن هناك شيئاً غير مفهوم في لبنان يتسرب إلى خطابات السياسيين، اسمه "حقوق المسيحيين".
هناك حديث عن "الأقليات" في العالم العربي، والنقاش قديم، ولا يرتبط بظهور مصطلح "أقليات" نفسه. ولكن، ثمة ما يتكرر أخيراً باستمرار في جزء من الإعلام اللبناني، تحديداً الإعلام الناطق باسم "التيار الوطني الحرّ" الذي يرأسه وزير الخارجية السابق جبران باسيل، ويعد رئيس الجمهورية ميشال عون "الأب الروحي" والمؤسس الفِعلي له.
"حقوق المسيحيين" أو "حقوق المسلمين" مصطلح "طبيعي" في إعلام "غير طبيعي"، كما لو أن حقوق المواطنين تقاس من هنا، وليس من درجة انتمائهم إلى وطنهم وحسب، بل إلى ما هو أكثر ابتذالاً من ذلك، أي إلى درجة انتمائهم إلى طائفة محددة. وهذا "طبيعي" بالنسبة لخطاب طائفي منتشر في البلاد منذ سنوات على أي حال. لكن تسرّب الخطاب إلى التلفزيون تفاقم. صار التلفزيون نفسه جزءًا من هذه "الحقوق"، أكثر من كون الطائفة نفسها صارت عاملاً أساسياً في تشكّل الهوية الوطنية.
مبادرة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، حين دعا إلى حياد لبنان الإيجابي وأطلق فكرة المؤتمر الدولي لإنقاذ البلد المنهار، قد تكون محقة سياسياً، لكنه يبقى بطريركاً. يبقى متحدثاً باسم جماعة دينية. والنقل التلفزيوني لمبادرته كان نقلاً غب الطلب، كما تنقل بقية الطوائف مهرجاناتها وخطاباتها. المفارقة أنه، وفي رأي كثير من المنظّرين، الطائفيين وغير الطائفيين، فإن الخطاب المعادي للطائفية ابتذل هو الآخر، لدرجة أن وجوده صار ضرورياً للخطاب الطائفي نفسه.
وإذا قارنّا التجربة الطائفية اللبنانية بالتجارب الطائفية الأخرى، إن كان ذلك في إسبانيا أو في أيرلندا، فسنكتشف أن النظام الطائفي اللبناني تحديداً هو نظام سيئ، من دون لامركزية إدارية واضحة، ولا يستطيع سوى أن ينتج نفسه، أو ينتج حالة اعتراضية رديفة مكملة له، تتمثل بخطاب لا طائفي.
ولفهم الإعلام "المحلي" في لبنان الذي يمثّل خصوصية أو خصوصيات لبنانية، ويتقاطع مع فضاءات عربية من النوع نفسه، يجب الانتباه إلى أن هذه ليست محاولة أخرى لتقريع النظام الطائفي بالشعارات. ليس هناك ما يلفت النظر فعلاً في الإعلام اللبناني عندما يتماهى مع طائفيته، بل ما يستدعي الانتباه أخيراً هو درجة النسخ. لسنا أمام طائفية، بل نحن أمام طائفية رتيبة.
بقليل من الجدية، يسعنا الاكتشاف أن القنوات اللبنانية لا تكتفي باستعارة الخطاب الطائفي من المجتمع بل تشارك في إنتاجه. تلعب دوراً أساسياً في العملية. يعني ذلك كل مراحل الإنتاج تقريباً، أي استخدام المواد الأولية التي يُصنع منها هذا الخطاب، ثم صناعة هذه المواد ودمجها، والأهم توزيعها في صيغة نهائية، تماماً كما فعلت أخيراً منسقة الإعلام في "التيار الوطني الحر" رندلى جبور التي لخّصت كل شيء بالخوف من معزوفة "أكلونا الإسلام"، (أشاحت بيدها قرفاً في النهاية، من هذه الحال التي وصلنا إليها كما تتخيّلها، حيث يأكل المسلمون المسيحيون، وللأسف لا يعترض أحد سوى الوزير الهنغاري). المنتج النهائي لتسرّب الخطاب الطائفي، في هذه الحالة، هو أن "المسلمين سيأكلون المسيحيين".
لا يحتاج المرء لأن يكون طائفياً أكثر من ذلك، ونتوقع هنا أن يقول كلاماً مثل هذا اللازمة الضرورية: أنا لست طائفياً، وهذه ليست طائفية، هذه مسألة سياسية. بالنسبة لكثيرين، يبدو الأمر أشبه بمضيعة حقيقية للوقت، أي أن تتحدث عن "رسالة" الإعلام، وعن منظومة أخلاقية، في بلد مثل لبنان. لا توجد رسالة سوى في الكليشيهات النظرية البائسة، لكن يوجد مُستلِمين، أو مُستَلبين، وهُم المشاهدون الذين وافقوا، أحياناً على مضض وأحياناً بمنتهى السرور، على التقاطع بين هوياتهم الطائفية الناجزة بعد الحرب، مع تركيبة الإعلام المحلي الذي نشأ طائفياً وعند الحاجة/ الأزمات يكون مبهراً في إظهار مهاراته في الشحن والبخ والحشو واللغو.
على قناة "أو تي في"، كما على "إم تي في" و"المنار"، تسمّى الطوائف بأسمائها، وتحضّر "شعوبها" دائماً لاستخدام هذا الخطاب. على شاشاتها، ليست هناك نخبة سياسية فاسدة، أو نظام اقتصادي في أضعف الإيمان لم يعد قادراً على خداع نفسه حتى. هناك حديث عن خطاب إصلاحي، ويناسب أكثر ربما استخدام مصطلح "تصحيحي" بالنظر إلى التحالفات الجديدة، ولكنه خطاب هامشي.
هناك برنامج حواري مع أصحاب الرؤوس الحامية، يقدّم نسخة هزيلة من "أدوار" السبعينيات والثمانينيات في مسرحية "فيلم أميركي طويل" لزياد الرحباني. وحتى العلمانيين السابقين في الإعلام، يغطون أخبار النظام من داخله، ولا يغادرونه. يتحدثون عن دور "المسيحيين" في موقع رئاسة الجمهورية، وحين تأتي الانتخابات يتشبثون بالتوزيع الطائفي للمقاعد، ويبدأون بالحساب على هذا الأساس. يعتقدون أن "هذا هو الواقع"، بينما قد لا يوجد "في الواقع" تعبير قابل للابتذال، مثل تعبير "في الواقع" نفسه. في أحسن الأحوال، ليست لديهم أي شجاعة لتقديم أي طرح مضاد.
لا جديد، ولكن ثمة انغلاقاً يتزايد. بكركي، مركز البطريركية المارونية، لا تظهر على "المنار". ولا تحتاج "أم تي في" لزيارة بئر العبد، في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت. الآخرون ليسوا الجحيم، بل هم "أكلة لحوم البشر" (ويستحسن قراءة هذه الجملة بصوت مذيع لبناني يعتقد أن صوته رخيم قبل أن يستقيل فجأة). انغلاق الجماعات على نفسها داخل "شاشاتها" ليس إلا تفسيراً من جملة تفسيرات لمزيد من انغلاقها خارج هذه الشاشات، وبعد ذلك لا يعود مهماً ما الذي يحدث أولاً وما يحدث ثانياً. ما هو يهم، الانغلاق، خوف باسم "جماعة" من أن تأكلها "جماعة" أخرى.
قبل جاك دريدا، كان الخطاب يولي الأهمية دائماً للنص على حساب الهامش، أو ما يحسبه هامشاً، وللمفهوم على حساب السرد/ الأدب، وطبعاً للمبادئ الرئيسية على حساب الأمثلة. كان الخطاب يقوم على جانب من المثالية على حساب بنية الخطاب نفسه وعلى حساب السياسة. لكن الخطاب الطائفي، بتمثيلاته المتنوعة في الإعلام اللبناني، يبدو أقل تعقيداً، وأكثر قابلية للتفكيك، على منهج دريدا نفسه. الأمثلة وافرة، وليس عليك سوى أن تفتح التلفزيون، حين ستسمع: "محمودات كلّن" (زياد الرحباني، فيلم أميركي طويل).