في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1898، رسا يخت على شواطئ حيفا. كان في انتظاره شخصيات عامة من عكا وبيروت ودمشق. ولم يكن مرور الإمبراطور الألماني بالميناء عابرًا بل قضى فيلهام الثاني عشرة أيام في فلسطين. كانت زيارة إمبريالية متأخرة، لأنه في ذلك الوقت كانت الدول الغربية الأخرى قد سبقت ألمانيا، ونهشت غالبية المصالح في السلطنة العثمانية. ونحن نرسم صورًا في رؤوسنا اليوم سنسمع أصواتًا في الميناء. عمال المرفأ ربما، أهل المدينة أيضًا، والقادمون إلى المكان لاستقبال الضيف. يتحدثون عنه وعن السلطان وعن الحياة في فلسطين، وربما عن سكة الحديد التي (كانت) تصل بلادنا بعضها ببعض. أصوات فلسطينية تأتي من حيفا نفسها ومن المدن القريبة. صعودًا من الجليل باتجاه اللد والرملة، وغالبًا من جاراتها على البحر عكا ويافا، وطبعًا من القدس ومحيطها، رام الله ونابلس وقلقيلية وطولكرم. والبحر يصل إلى غزة. بعد حيفا، سيقضي الإمبراطور 10 أيام في فلسطين، وسيزور مدنها.
لوقتٍ طويل بعد النكبة، انقطع وصول أسماء المدن الفلسطينية بعضها مع بعض. ربما حدث ذلك في الصحف وفي التلفزيون أثناء الانتفاضة، وأثناء اعتداءات الاحتلال المتواصلة على المدن والقرى الفلسطينية. لكن الاحتلال، ومعه منظومة الإعلام الاستعماري، حرص لوقتٍ طويل على ألا ينظر العالم إلى الأراضي الفلسطينية كأرضٍ واحدة وشعب واحد. ورغم أن الفلسطينيين رفعوا صوتًا واحدًا هذه المرة، إلا أن الإعلام الغربي حرص مجددًا على التقسيم، وعلى استخدام القاموس الاستعماري.
ثمة قاموس استعماري، يتجاوز الحديث عن الإعلام ووظائفه، وقد ظهر في العداون الأخير كأداة من المعركة ضدّ الفلسطينيين. لا نتحدث فقط عن استبدال "الاستيطان" و"الاحتلال" و"الإبادة" بالمصطلحات الإسرائيلية، مثل "جيش الدفاع" و"ضربات استباقية" و"إرهاب"، بل عن التغطية اليومية أيضًا، الخاضعة لتصور مسبق للأحداث ينافي الحقيقة.
تقول وكالة "رويترز" للأنباء: ليس هناك وقف لإطلاق النار بعد. وينقل عنها بعض العرب، أحيانًا، تسمية الإبادة بوقف إطلاق النار. تقول "فرانس برس" إن "الصراع بين إسرائيل وغزة مستمر"، كما لو أن ما يحدث في غزة هو صراع بين الأقوياء، وبين متمردين يتوجب عليهم الخضوع. هناك في غزة، حيث يُنفى الفلسطينيون وتُنفى الحقيقة معهم. لا يوجد اعتراف بالفلسطينيين إلا كمنفيين. يعترف الاستعمار بهم كمنفيين أو كمستعمَرين وحسب. لكن صوتهم كان عاليًا جدًا هذه المرة، إلى درجة كان تجاهله مستحيلًا، لكن خلف الصوت، هناك الكثير مما يمكن للإعلام أن يتجاهله.
ثمة قاموس استعماري يتجاوز الحديث عن الإعلام ووظائفه
مع أنها معلومة هامة، حتى للذين يعتقدون أن هناك شيئاً اسمه "حياد" عندما تحدث عمليات إبادة وتطهير عرقي، لن تجد في الاعلام الغربي من يخبرك بأن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز 2 في المائة من مساحة فلسطين التاريخية. وطبعًا، لن يذكر أحد أن معظم الذين يعيشون في غزة، مع سكانها الأصليين، هم فلسطينيون، أبعدهم الاحتلال في الأساس من مدنهم وقراهم على فترات متعاقبة.
لن تجد معلومة أخرى: أعداد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، من دون القدس الشرقية حيث يقع الشيخ جراح، ارتفعت بأكثر من 40 في المائة عما كانت عليه قبل عشرة أعوام. صار عددهم اليوم 442 ألف نسمة تقريبًا في الضفة الغربية وحدها، مقابل 220 ألف مستوطن تقريبًا في القدس الشرقية وحدها. وعندما تحاول "نيويورك تايمز" أو "لوموند" تغطية الأخبار وتأويلها وفهمها وسفسطتها، تنسجم مع ذاتها: تعمل وفق المعرفة التي أنتجها الاستعمار.
عندما قصف الاحتلال برج "الجوهرة"، قال الرئيس التنفيذي لوكالة "أسوشييتد برس" غاري برويت إن هذا "تطور مزعج بشكل لا يصدّق". ولا توجد دلالة أعمق من تعبيره: "مزعج". لقد شعر بالانزعاج، لا لمقتل الأطفال من حوله، ولا لضيق المكان بأهله الهاربين من وابل الصواريخ، بل لأن "ثمة تطوراً". هذا التطور، بالنسبة له هو عدم احترام جزء من المستعمِرين لشروط اللعبة، بين بعضهم البعض. وعندما يقول إن العالم "لن يعلم الكثير عما يحدث في غزة بسبب ما حدث"، فهو لا يقصد ما يحدث فعلًا، إنما ما يمكن الاعتراف بأنه يحدث، حتى لا يتضعضع "الضمير الاستعماري".
ليس من حق الفلسطينيين أن ينزعجوا لتعرضهم لإبادة، وعليهم الاكتفاء "بوقف لإطلاق النار". وعندما يقول الإعلام الغربي مدنيين، فهو يقصد المدنيين الإسرائيليين. ليس لأن الفلسطينيين ليسوا مدنيين، بل لأنهم ببساطة ليسوا موجودين. إنهم أشخاص، بالنسبة للاستعمار، يمكن تجاهل وجودهم تمامًا.
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1898، رسا يخت على شواطئ حيفا. وربما يكون اختيار هذه الحادثة أفضل من غيرها، ليس لوقائعها بحد ذاتها، بل لما سيتبعها من تصورات، بوصفها حدثًا من الذاكرة. والأحداث في الحاضر لا تبنى إلا من خلال فهمنا ومواقفنا من الماضي، مهما حاولنا. في مكان ما، داخل الوعي الغربي، سنفترض أن ما سيتبع "رسو اليخت على شواطئ حيفا" هو تصورات مختلفة ليست عن الحدث بحد ذاته، بل عما يمكن أن يحدث في ذلك المكان، في ذلك الزمان، عندما يرسو يخت على شواطئ فلسطين، في أوائل القرن العشرين. سيتخيّلون أن اليخت يضم مستعمِرين. ستبنى بقية القصة على هذا الأساس. ولأن الذاكرة، المكتوبة كما الشفهية، لا تعيد تمثيل الأحداث كما حدثت بالضبط، يعيد الغرب تذكّر القصة كما تناسبه، فينسى أنه نفسه كان معاديًا للسامية في ذروة احتفاله بالعقلانية وبالمنهج العقلاني، وأنه كان مستعمِرًا عدائيًا إلى أقصى درجة، وأن فلسطين كانت هادئة قبل الاستعمار.
سيعتقد أن اليخت يحمل أشخاصًا يتفوقون على الموج وعلى البحر وعلى السكان الأصليين، وستبنى بقية القصة على هذا الأساس، في "رويترز"، أو في "فرانس برس"، أو الـBBC، وبقية وسائل الإعلام التي ترتكز إلى خلفية استعمارية. ليست القصة قصة "حياد مهني" يمكن لهذه المحطات الوصول إليه، وليست أيضًا "أجندات" دول ظرفية وآنية، كما يحلو لهواة المؤامرات التصديق. إنها مسألة معرفة قديمة أنتجها الاستعمار بالقوة، ومسألة فهم ينطلق من الذات نحو الآخر، بمنهج استعماري، فلا يراه.
عندما يرسو يخت في ميناء حيفا، ستبحث الكاميرا الغربية عن الآتين من الغرب على متن القارب، ولن تفكّر كثيرًا بالجهة المقابلة. لن تنتبه إلى وجود عمال في المرفأ، أو فلاحين حتى يتصارعون مع بورجوازية ناشئة. تمنح لنفسها ما يمنحه المستعمِرون لأنفسهم: الحق في تجاهل وجود الآخرين. لذلك، عندما يسقط صاروخ على الأطفال في غزة، لا تذكر "فرانس برس" أنه سقط على أشخاص، أطفال وغيرهم، لديهم أسماء ووجوه وأعمار محددة. لا تعترف بوجودهم، بل تكتفي بالاعتراف بسقوط صواريخ. في الإعلام الغربي، لن تقرأ تقريرًا عن أنس اليازجي وشيماء أبو العوف والمئات مثلهما. صور الأطفال لا تظهر في وكالات الأنباء، إلا وهم يحملون الألعاب ويغادرون. رغم العدد الهائل للضحايا من الصغار، لا تظهر وكالات الأنباء ما يمكن استخدامه دليلاً على الوحشية الإسرائيلية. على النقيض، بذلت "نيويورك بوست" جهدًا لكي تصدّق نفسها، وعرضت صورة جوية تافهة وغير واضحة، التقطتها آلة القتل، تقول فيها إن الاحتلال أوقف الصواريخ لأنه لاحظ وجود أطفال. لا وجود لأسماء، لوجوه، مجرد أرقام لا تتوقف، تمامًا كما حدث في معتقلات الإبادة، عندما مُنِح الضحايا أرقامًا. ليست الأرقام مجرد أرقام، إنها إشارة عميقة إلى الرغبة بالإبادة، والتسليم بالأرقام، تسليم بالإبادة.