منتحلاً اسم داود الناطور، وصفة رجلٍ عربي بدوي في خريف العمر، ظهر المذيع الإسرائيلي إلياهو ناوي لأول مرة على إذاعة "صوت إسرائيل بالعربية" التي بثت من القدس غداة نكبة عام 1948.
ناوي كان شاباً في أواخر العشرينيات حينها، لكنه اختلق شخصية إذاعية زائفة، تتحدث اللهجة المحكية التي يستخدمها عامة الشعب الفلسطيني، بغية الوصول إلى أكبر شريحة من العرب، وذلك خلافاً للإذاعات العربية التي استخدمت حينذاك العربية الفصحى.
توجه ناوي في برنامجه إلى الجمهور الأردني والمصري، أو "إلى الأخوة الأردنيين والمصريين"، على حدّ تعبيره، مقراً، بنوعٍ من شهادة الزور، أنه يعيش كرجلٍ عربي في إخاء وتسامح مع المستوطنين الإسرائيليين.
في حقيقة الأمر، كان ناوي الذي هاجر من العراق إلى القدس منتسباً لحركة الشبيبة الصهيونية، وتجمعه علاقة وطيدة مع الموساد، الذي وظّف مهاراته الإذاعية وإتقانه العربية في "الحرب النفسية" التي كانت من أهم أدوات الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية، ولم ينزع اللثام عن هويته الحقيقية إلى أن أصبح رئيساً لبلدية بئر السبع، عندها اتضح أن نجم "صوت إسرائيل بالعربية" ما هو إلّا شخصية مختلقة بعناية لمخاطبة الشعوب العربية.
لم يكن ناوي وحده من انتحل شخصية مذيع عربي، فلدينا أيضاً سلمان دبي الذي كنّى نفسه بـ"ابن الرافدين"، وكان من شأن هذه الشخصية الإيحاء بتسامح إسرائيل مع العرب، بل على العكس، فهي تحتفي بالعراق بصوت "ابن الرافدين".
في ما بعد، وإبان النكسة، عكفت الحكومة الإسرائيلية على إنشاء وسائل إعلام باللغة العربية لتسخّرها في حرب الدعاية والترويج لفكرة "الجيش الذي لا يقهر"، ذلك بغية بث الرعب في نفوس الجيوش العربية، وتخويف الفلسطينيين عبر إيصال رسائل غير مباشرة، تحثّهم على ترك أراضيهم، إذ أسست إثر نكسة 1967 لجنة مهمتها إقامة راديو وتلفزيون عبري ناطق بالعربية، موجه للجمهور العربي بطبيعة الحال.
قد تكون قصة الإذاعة التي أسستها منظمة الهاغاناه العسكرية الصهيونية واحدة من مئات القصص التي تصب في تضليل الإعلام الإسرائيلي، ولعلها تبين أن آلة الإعلام الإسرائيلية بأشكالها وأزمانها قامت على انتحال الشخصيات والتزييف، ولم تنفصل يوماً عن مخطط الموساد الإسرائيلي، ورسائله المباشرة وغير المباشرة.
في سرديةٍ ذات سياقٍ متصل، تحاول إسرائيل، عبر منصاتها على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلامها، منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، طمس مجازرها برواية تنضح بالزيف، روجت لها عبر ترسانة إعلامية، منها الموجه للغرب، والأخرى للجمهور العربي.
تثبت هذه الرواية سيولة مفاهيم التعايش السلمي والتسامح، التي لطالما صدّعت المنصات الإعلامية الإسرائيلية رؤوس الجمهور العربي بها، لا سيما أن إسرائيل استثمرت الفضاء الافتراضي لاستمالة شريحة الشباب في العالم العربي، بمنشورات تصب في فكرة أن زمن الانتفاضات قد ولّى، ومفهوم المقاومة قد عفى عليه الزمن.
بعد عملية طوفان الأقصى شن ما يسمى بـ"جيش إسرائيل الإلكتروني" حرباً موازية عبر منصات التواصل الاجتماعي، بهدف الترويج لروايته التي اعتبرها مضادة للرواية الفلسطينية، إذ وصفت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية أن المعركة الافتراضية لا تقل أهميةً عن جبهات القتال، لما فيها من توعية، كونها تهدف إلى التأثير في الرأي العام العالمي، الذي بات يستقي الأصداء الشعبية من تلك المنصات. ونشطت صفحات إسرائيلية أسست مسبقاً على فيسبوك وتويتر، مثل "إسرائيل تتكلم العربية" ومنصة "مكان" وصفحة "الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي".
مع بدء "طوفان الأقصى"، راحت الصفحات الإسرائيلية تنشر آيات قرآنية وأحاديث نبوية، في سبيل ابتزاز العاطفة الدينية لدى المسلمين العرب من جهة، ومنشورات أخرى تربط حركة حماس بـ"داعش" الإرهابي، بغية استثارة مخاوف المتوجسين من المدّ الإسلامي من جهة أخرى، فانتشر هاشتاغ "حماس داعش" مع صور ومقاطع فيديو لأهالي الأسرى الإسرائيليين.
تخلع إسرائيل جبروتها جانباً، وترتدي رداء المستضعف بناءً على الظرف المهيمن، وتبدأ حملات ممنهجة للترويج لإسرائيل الضحية، فتذهب المنصات ذاتها التي كانت تصور حنين كبار السن الإسرائيليين ذوي الأصول العربية لأوطانهم الأولى، وحالة الاندماج بين فلسطينيي الأراضي المحتلة (عرب 48) والمستوطنين الإسرائيليين، إلى ترسيخ رواية مفادها أن الفلسطينيين ارتكبوا مجازر بحقّ الإسرائيليين.
حتى بعد مجزرة قصف مشفى المعمداني الأخيرة التي أودت بحياة أكثر من 500 فلسطيني، زعمت الصفحات الإسرائيلية أن استخباراتها حصلت على مكالمة بين عنصرين من حركة حماس، معتبرةً أن هذه المكالمة هي اعتراف بأن "حماس" قصفت عن طريق الخطأ المستشفى، في حين لا يوجد أي إثبات يشير إلى أن هذه المكالمة تنطوي على شيء من الصحّة، إلا إذا اعتبرنا أن كل من يتحدّث اللهجة الفلسطينية مجنّد لدى حماس.
وعلى خلفية مجزرة مستشفى المعمداني، لا يردع الخجل صفحات مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية عن إلصاق تهمة تهجير وقتل الفلسطينيين في غزّة بالمقاومة الفلسطينية، فنشرت صفحة "إسرائيل تتحدث العربية" مقطع فيديو يظهر مستشفى المعمداني ومستشفى برزيلاي مدمرين، وأرفقته بـ"صواريخ الدواعش قصفت مستشفيين، إسرائيلي وآخر فلسطيني. الإرهاب لا دين له".
كان الإعلام الغربي، وعلى رأسه "بي بي سي"، قد أثار تساؤلات حول أنفاق شقتها "حماس" تحت المدارس والمشافي، الأمر الذي ينطوي على تبرير قصف إسرائيل للمستشفى، إضافة إلى تصريح محذوف لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ينصّ على أنهم أنذروا الفلسطينيين بإخلاء مستشفى المعمداني في غزة، وخمسة مستشفيات أخرى، و"قد أعذر من أنذر".
ولعل تلويح سلطات الاحتلال بإعادة الكرّة وقصف مستشفى القدس في غزة بعد أن طالبت بإخلائه على الفور، يدحض كل محاولات التنصل الإسرائيلية من المجزرة.
لعل أهون ما اقترفته المنصات الإسرائيلية، في حربها الإعلامية النفسية، هو إلصاق صفاتها بالطرف الآخر كخطوة استباقية نحو تبرئة نفسها ونفي الشبهات عنها، إذ أطلقت على حركتي حماس والجهاد الإسلامي ألقاباً على غرار "البرابرة" و"أحفاد هولاكو" و"مسلوبو الإنسانية" وغيرها. هكذا تهاجم إسرائيل رجلاً من قش صنعت صورته بنفسها عبر منصاتها.
تعمدت السياسة الإعلامية الإسرائيلية تكرار الادعاءات حتى يتم تصديقها، مقابل التعتيم على أحداث أخرى، والتركيز على فكرة أن الضحية هي التي تسببت في وقوع الجريمة، أي أن الفلسطيني يدفع الجندي الإسرائيلي "المسالم" مضطراً إلى قتله. هذه السياسة ربما استقتها إسرائيل من التصريح الشهير لرئيسة وزراء إسرائيل بعد النكسة غولدا مائير: "لن أسامح الفلسطينيين؛ إنهم يجبرون جنودنا على قتلهم".
كل ذلك يحصل، على الرغم من ادعاءات إسرائيل عبر منصاتها بأنها تؤمن بحق للفلسطينيين في العيش الكريم، عدا عن الدعوات الخلّبية للمساواة، مشيرين بأصابع الاتهام لحركات المقاومة بإعاقة التعايش عبر توريط الشباب الفلسطيني بالالتحاق بها، على الرغم من أنهم في حال معيشية ومهنية وأمنية يرثى لها.
أما الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، فلا يوفّر مناسبة إلا ويظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، حاله كحال صناع المحتوى والمؤثرين، فتارةً يهنئ المسلمين بأعيادهم الدينية، وتارة أخرى يوجّه رسالة إلى الأمهات الفلسطينيّات بمناسبة عيد الأمّ، ناصحاً إياهن بالتنبّه من "المنظمات التخريبيّة التي تستغلّ بعض الأمهات لخسارة أبنائهنَّ خدمة لمصالح أجنبية"، على حدّ تعبيره.
أعلن أدرعي مسبقاً أنه يعمق وجود إسرائيل بين العرب عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ قال: "إذا كان العرب سمعوا سابقاً عن إسرائيل، نحن موجودون اليوم بقوّة في حياتهم، نحاول عبر صفحتنا خلق خطاب حقيقيّ من دون وسطاء بيننا وبين الجماهير العربية".
مع كل جريمة يقترفها الاحتلال، تعلن الصفحات الإسرائيلية أنه لا يوجد حرب نظيفة، وذلك في محاولةٍ منها لتبرير قتل المدنيين في غزة، فلا بدّ من إراقة دماء العزّل، من دون قصد، في إطار الحرب ضد الإرهاب. وفي سرديّة أخرى، تسوّغ إسرائيل جرائمها بأن من يقدّم المأوى والدعم للمقاومة ليس بالبريء ويجدر قتله.
هكذا، انكبّت المنصات الإسرائيلية الناطقة بالعربية على تشويه مفهوم المقاومة عبر ربطه بالإرهاب، فأجرت مقاربة بين عملية طوفان الأقصى وجرائم "داعش" الإرهابية وهجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، وذلك في محاولة لتلبّس دور الضحية وتذكير الجماهير بسرديات الإرهاب التي تخوّف منها العالم بأسره، بالإضافة إلى وضع إسرائيل محطّ للتعاطف في صراعها المزعوم ضد الإرهاب.