استمع إلى الملخص
- بعد الحرب، تحولت السينما اللبنانية لاستكشاف الزوايا النفسية لما بعد الحرب، كما في أفلام زياد دويري وغسان سلهب، التي تناولت موضوعات مثل فقدان الذاكرة والحداد المؤجل.
- في الألفية الجديدة، استمرت السينما في معالجة آثار الحرب النفسية والاجتماعية، كما في أعمال دانييل عربيد، مما يثير تساؤلات حول قدرة السينما على ترميم الأرواح.
شكّلت حرب الـ15 عاماً أكبر صدمة جماعية عاشها اللبنانيون منذ الاستقلال. عرفت الفترة العصيبة نفسها، بشكل مفارق باعتبار أجواء الفوضى والعنف، ولادة سينما لبنانية، حقّقت صدىً مُهمّاً في الخارج، بفضل جيل شابٍ من المخرجين، كمارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب. كان تدمير وسط بيروت جرحاً غائراً، انفرزت منه عشرات القصص والاستعارات عن شعور فقدان هذا الفردوس، المُتجلّي في مدينة ساحرة، امتزجت فيها ثقافات مختلفة، وأينعت مظاهر الحرية.
أحد المواضيع الرئيسية، التي تتخلّل السينما اللبنانية: الذاكرة، بشتّى تجلّياتها. ذلك أنّ جُلّ الأفلام اللبنانية تحمل، بصورة أو بأخرى، شهادة على الماضي. تُعبّر أفلام الجيل الأول من المخرجين، وما بعدها، عن شعور أو أزمة تمثّل الحرب بكونها تجربة معيشية، انعكست في صُوَر راسخة: أقارب يقاتل بعضهم بعضاً، معابر تفتيش على حافة الانفلات، قصص الاختفاء القسري وغير القسري، إلخ. هكذا، يستكشف فيلم "حروب صغيرة" (1982) لمارون بغدادي كيف أنّ المُثُل العليا، التي دفعت شباباً لبنانيين عديدين إلى الانخراط في الحرب، اضمحلّت شيئاً فشيئاً بفعل التنكّر والخيانة التي تعرّضت لها، وأضحى الرحيل بمثابة البديل الوحيد لفقدان العقل.
إلى منتصف تسعينيات القرن الـ20، كانت معظم المواضيع السائدة في السينما اللبنانية، المُتعلّقة بالحرب، تدور حول سيناريوهات الحرب نفسها، قبل أنْ تنزاح الروايات من ذاكرة جماعية جامدة، إلى حدّ ما، إلى زوايا ذاتية، وتصوّرات تأخذ مسافة من الأحداث، وتعيد صوغها في قالب فنّي، مُتحمّلة عواقبه، مع كل ما يثير ذلك من جدل حول تأويلات تنجز قراءة جديدة في الحرب، بعيداً عن هالة الرهبة والكليشيهات المرتبطة بها. كان زياد دويري أحد أبرز ممثلي هذا التيار، بفيلمه الطويل الأول "بيروت الغربية" (1998)، إذ أثار، بذكاء وجمالية لا تخلو من نوستالجيا، مسألة الذاتيّة عبر شغف البطل بالسينما، حين يُسجّل مشاهد الحرب بكاميرا "سوبر 8"، مُوثِّقاً بها في الآن نفسه لحظات يومية حميمة، تُعبّر عن المُراهقة بكلّ مفارقاتها الساخرة وانفلاتاتها، وعن العلاقة التراجيدية بالأم.
مع حلول السنوات الأولى من الألفية الجديدة، طفت على السطح زوايا جديدة لمعالجة الحرب، خصوصاً أنّ الأحداث المفصلية التي عرفتها هذه الفترة ـ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري (13 فبراير/شباط 2005) و"حرب تموز" (2006) ضدّ إسرائيل ـ ساهمت في إعادة أجوائها إلى الذاكرة، وأضحت هذه الأخيرة، وكلّ المفاهيم النفسية المرتبطة بها (نكران، حِدَاد مؤجّل، فقدان الذاكرة، تروما كَبْت الأحاسيس) مدخلاً إلى تناول سياق ما بعد الحرب أكثر من تجارب الحرب نفسها، وكلّ المَشاهد الدامية اللصيقة بها. توجّهٌ وَجَد صداه ـ وربما وجهه الفنّي ـ في فيلم مفصلي، "أشباح بيروت" (1998) لغسان سلهب، الذي يخلط بين الوثائقي والتخييل، للقبض على وضعية عصيبة ومعقّدة. شخصيات تظهر وتختفي كناية عن عجز مُطبق عن الاستمرار في حياة "طبيعية" بعد كلّ ما جرى، فتبدو كأطيافٍ تجوب ذاكرة الأماكن والأشخاص بحثاً عن خلاص، فلا يزيدها الاجتماع في ما بينها، وإعادة الوصل مع الحارات والمنازل، سوى تغرّبٍ على تغرّب. يقول أحمد علي الزين، في أحد أدلّ مقاطع الفيلم وأكثرها تأثيراً: "الحرب لم تُخرِّب البنايات فقط، بل خرّبتنا من الداخل أيضاً. كانت هناك مشاعر وأعصاب وأحلام في طور التكوّن في دواخلنا، قُصِفت واغتيلت أيضاً. ربما نشبه من الداخل، نحن الجيل الذي عاش هذه الفترة، تلك البنايات المُصدّعة التي لم تُجرف بعد. لكنّنا نحاول ترميم دواخلنا، لنكمل بقية العمر".
في المنحى نفسه، يتناول فيلم "يوم آخر" (2005)، لجوانا حاجي توما وخليل جريج، إشكالية آلاف المفقودين الذين اختفوا في الحرب من دون أنْ يتركوا أثراً، مُظهراً لبنان مسكوناً بالبؤس والتباعد وانعدام أفق التواصل الاجتماعي. يُجسّد فقدان الأب واستحالة الحِداد عليه مفهوم تصلّب الذاكرة في مساحة عالقة بين الموت والحياة، مع استعارة انعكاس هذه العلاقة المتأزمة مع ذكرى الحرب في انفصال الأم عن الواقع، ومرض التنفّس الجاثم على صدر الابن، وعلاقته الهلامية مع حبيبته، وتفكّك العائلة المُعبِّر عن حالة المجتمع اللبناني ما بعد الحرب.
من جهتها، عادت دانييل عربيد إلى لبنان بعد مغادرتها إياه عند بلوغها 17 عاماً، وسعت لملامسة اللامرئي بالنّبش في الآثار النفسية للحرب وتداعياتها الخبيئة، في أعمالها الروائية، كـ"معارك حبّ" (2004)، والوثائقية، وأبرزها "وحيدة مع الحرب" (2000)، إذْ تجعل من ظهورها الخاص وسيلة للنظر مباشرة في عيون الهاوية، وطرح أسئلة جريئة وأخلاقية على مقاتلين سابقين، بما فيها التفكير في إمكانية أن تُقْدِم هي نفسها على القتل لو وضعتها الظروف مكان من تستجوبهم.
لعلّ ما يجري اليوم من تدمير منهجي للبنايات والأرواح، قتلاً وإرهاباً تقودهما آلة الحرب الإسرائيلية الهوجاء، في حقّ مواطني غزّة والضفة الأبرياء، ثمّ في لبنان قصفاً واجتياحاً برّياً لأراضيه الجنوبية، يُعيد طرح تساؤلات عن قدرة السينما على أنْ تكون وسيلة لترميم الأرواح مجدّداً، وإعادة تركيب ما تشظّى في الأماكن والذاكرات، وكيف ستتصادى هذه الحرب، التي فُرضت على اللبنانيين من احتلال إسرائيلي غاشم وإيديولوجيته الفاشية، مع صُوَر الماضي الأليم، والجروح التي لا تُغلق إلا لتُنكأ مجدّداً.
كأنّ قدر لبنان، وبيروت بالذات، أنْ يظلّ ذلك الفردوس المفقود الذي لا يُلملم شتاته، مُحاولاً الانبعاث من رماده كفينيق جميل، سوى ليشتعل بحرب أخرى، تُنذر بصُوَر الحطام والفقدان ومتاهات الذاكرة. تقول عربيد: "عندما عدتُ إلى بيروت، كنتُ أرى الحرب في كلّ مكان، محفورةً في كلّ حجر، على كلّ جدار، على كلّ وجه (...). رغم المتاحف والاحتفالات والتماثيل والكتب والخطابات والنيات الحسنة، كلّ ما تبقّى من الأشياء التي ذهبت ذكرى غامضة. لذلك أصنع أفلاماً لإعادة اختراع المنارات الغارقة، ومهما كان الثمن، أُبقي الظلال حيّة. في بعض الليالي أراها. أحلم بأنّي أعيش في أحد تلك المباني في بيروت، والحرب لم تبدأ بعد. أنظر من نافذتي إلى المدينة. 150 ألف قتيل لا يزالون أحياءً. وهم في هذه الساعة ينامون في أسرّتهم، في بيوتهم. مررتُ بهم. في هذا البلد، تبدو المباني كأنّها مبانٍ حقيقية، من دون تجويفات أو آثار رصاص. رجال المليشيا ليسوا رجال مليشيا. لم يفقدوا براءتهم بعد. الحرب مُجرّد كابوس بعيد. لنْ تحدث الحرب" (الموقع الإلكتروني لـ"مركز بومبيدو" في باريس، 19 ديسمبر/كانون الأول 2022).