الأفلام التاريخيّة: حضور الإكسسوار وغياب السينما

28 فبراير 2021
يوسف شاهين خلال تصوير "وداعاً بونابرت" (1985) (إريك بوفيه/Getty)
+ الخط -

هناك التباس وشيء غائم في العلاقة القائمة بين السينما والتاريخ، في العالم العربي. العلاقة غير مُؤثّرة في أدبيّات النقد السينمائي، في وقتٍ يشهد ازدياد الاشتغال على التاريخ يوماً تلو آخر، كمُفردة بصرية في فيلموغرافيا عربيّة، تتأرجح بين التخلّص من أساطير تاريخ يحضر كسُلطة قاهرة، ينفي معه فسحة عيش في راهن مُتشرذم ومُمزّق، ومُجتمع عربيّ مُحبط، ينظر إلى الوراء، كأنّ في الوراء يكمن عيشه وخلاصه وموته.

المُثير للانتباه في جوهر هذه العلاقة أنّ الشعوب العربيّة أكثر تأثّراً وتشبّثاً بتاريخها، وفي الآن نفسه الأقلّ اهتماماً به، وبتدوينه فنياً وسينمائياً، بعيداً عن تواريخ رسمية، تصنعها السُلطة. لعلّ هذا الجرح الخفيّ بين التاريخ والسينما يجعل العلاقة غائبة ومُغيّبة في مختبرات علمية، تنظر إلى السينما كأنّها دخيلة على البحث التاريخيّ، علماً أنّ المُؤرّخ هو المُستفيد الأكبر من الصورة السينمائية، على مستوى الحكي وميكانيزمات الزمن وحدّة السرد، وقدرة الصورة السينمائية على كتابة تاريخ مُضاد لكلّ نصّ رسمي أعمى، يرى في التاريخ موطناً للفائزين، ما يجعل التاريخ يهتمّ، وفقاً لهذا المفهوم، بالأغنياء والمُنتصرين في بلاطات السلاطين والفتوحات والمعارك الجهادية.

الشعوب العربيّة أكثر تأثّراً وتشبّثاً بتاريخها، وفي الآن نفسه الأقلّ اهتماماً به وبتدوينه فنياً وسينمائياً، بعيداً عن تواريخ رسمية

السينما، باهتمامها بتفاصيل مُملّة يهملها التاريخ الرسمي، تنتزع لنفسها مكانة مركزية في هذا التاريخ، باهتمامها بالمُهمّشين والمهزومين والمنكوبين، الذين يذكرهم التاريخ باعتبارهم ظواهر تتبرعم على هامشه. المُفكّر المغربي عبد الله العروي ينحو هذا المنحى، الآخذ بالمذهب الجدلي المادي الهيغيلي، لكنّه لا ينتبه إلى أنّ هيغل نفسه أعاد الاعتبار إلى هذه الروافد الثقافية والتاريخيّة، بوصفها تُساهم في بناء التاريخ، وتمنحه تعدّديته واختلافه. السينما تهتم بهذه الهوامش، فتُعيد بناءها بطرق مختلفة عن التاريخ، لأنّها تعبيرٌ يتحدّد مرماه انطلاقاً من الفنّ. أما التاريخ، فعلمٌ يروم إلى بناء "حقائق" تخضع لميكانيزمات علمية أساساً. في السينما، يعمل المُخرج على تثوير الصورة، وجعلها تعيش بين الواقعي والتخييلي، وبين التاريخي والفانتاستيكي.

هذا يعني أنّ المُخرج مُلتزمٌ خطّة لا تخرج في سياقاتها ومعالجاتها عن النظرية الفنية والجمالية. أما المُؤرّخ، فساردٌ تعنيه أولاً معرفة الأخبار والحقائق ليرويها لقارئ مُتعطّش إلى المعرفة، وفق سلسلة لانهائية من الأحداث التاريخيّة.
على هذا الأساس، تبدو السينما أقرب إلى الاعتراف بصيحة العروي، من خلال الركون إلى مفهوم التأويل، كخطوة ناجعة لتفسير الأحداث وفهمها، قبل الشروع في عملية تدوينها. السينما تُقيم دائماً مسافة حقيقية بينها وبين الحدث التاريخي، لا لتُوثّقه فقط، بل لتعمل على تخييله، ما يجعل التخييل في ذهن المُخرج يحتكم إلى تأويل مُسبق، قبل نقل الحدث إلى الصورة السينمائية.

السينما باهتمامها بتفاصيل مُملّة يهملها التاريخ الرسمي، تنتزع لنفسها مكانة مركزية في هذا التاريخ

هذه الهُنيهة الغنية، التي تأخذها السينما مع الحدث التاريخي، يجعلها تُخضع الحدث إلى عملية تأويل، تفرز أبعاداً فنية وجمالية. بهذا المعنى، ينتج التأويل عن شروط ذاتية، تتداخل فيها عوامل برّانية عن السينما، ولها علاقة وطيدة بذاتية المُخرج، وتكوينه وذوقه وايديولوجيته. هكذا ظلّت السينما، بالنسبة إلى مفكّرين عديدين، الفنّ الأكثر تعبيراً عن قضايا سياسية واجتماعية، بسبب المسافة الفاصلة بين الحدث والذائقة الشعورية/ التعبيرية. حتّى إنْ عادت إليه، فهي لا تُوثّقه ولا تكتُبه بصرياً، بقدر ما تعمل على تخييله، وجعله يمتطي سيرة المرئي. هي تملكه جمالياً، وتُحاول القبض على اللامُفكّر فيه، الذي لا يهتم به المُؤرّخ، وربما يُهمله عمداً لأسباب سياسية محضة.

المُؤرّخ غير معنيّ بهذا الهَامش وحيثياته، بقدر ما يركِّز على أحداث سياسية كبرى، ذات علاقة بالسلاطين والملوك وسلالاتهم، وتعاقب حضاراتهم وسقوطها. السينما تستقصي هذا المكبوت الخفيّ للأحداث التاريخيّة، لتحرّرها أكثر من نظرة فوقية مركزية، ترى أنّ الفرد المهزوم لا يُمكن أن يكتب تاريخه، على خلفية المقولة الأثيرة: التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون.
 

بين المركز والهامش، يكمن جرح العلاقة. إذ ما ينساه المُؤرّخ، يعود إليه السينمائيّ، ويشتغل عليه بكثافة وبرؤية جديدة، تختلف عن اشتغالات المُؤرّخ وطريقة نظره إلى التاريخ. الأفلام القليلة والنادرة، التي اشتغلت على التاريخ، بدت بالنسبة إلى المُؤرّخ كأنّها تنتج صُوَراً راديكالية للمُجتمعات العربيّة وتاريخها، عبر نقد يرتكز على حرية تعبير، لا تُتيحها له مُؤسّسات الإنتاج، ولا سلطة الرقابة، بل مفاهيم الرمز والخيال والاستعارة ومجازاتها البصرية. هذه العناصر الفنية تُساعد الصور، التي يُنتجها السينمائيّ في أفلامه، على تخطّي الرقابة السياسية والمُجتمعية، والذهاب إلى عمق التاريخ وطبقاته المنسيّة.
وفق هذا المنحى الفكري، يبحث السينمائيّ عن المُدهش والغريب في طبقات مُترسّبة من التاريخ. ورغم أنّ المنسيّ لا تُحبّه السلطة أو بالأحرى لا تريده، لكنْ بالطريقة الهجينة والمُحتشمة التي ينقله بها المُؤرّخ يعتاد نمطاً معيّناً من التحليل، وبساطةً في سرد يقوم على نقل الأخبار والحكايات والأساطير التاريخيّة، من دون إعمال العقل فيها، وتمحيصها وغربلتها وتمييز حقيقتها عن ارتفاع منسوب الكذب فيها.

الهُنيهة الغنية التي تأخذها السينما مع الحدث التاريخي يجعلها تُخضع الحدث إلى عملية تأويل، تفرز أبعاداً فنية وجمالية

الفيلموغرافيا المَغاربيّة، التي اشتغلت على التاريخ، كثيرة ومُتنوّعة، وإنْ كانت هشّة. في هذه التعدّدية، تكمن المُشكلة الحقيقية في علاقة السينما بالتاريخ، غير السليمة، التي لا تشتغل بالطريقة الصحيحة في الفيلموغرافيا المَغاربيّة، أمام التوتّر القائم بين السينمائيّ والمُؤرّخ حول طبيعة "نقل" الأحداث التاريخية والصورة، التي ينبغي أنْ تُقدَّم بها أمام مفهوم سُلطة مُتأجّجة، تشتغل بخفاء، بل وتلحم ضمنياً علاقة السينما بالتاريخ، من دون أن تظهر على سطح هذه العلاقة.

لذا، هناك تمييز في الأعمال السينمائية العربية بين نوعين من الأفلام التاريخيّة:
*الأولّ تطلق عليه المُؤسّسات السينمائية جهلاً صفة "الفيلم التاريخي"، وهذا عنوان مُستعار وبعيد عن حقيقة الفيلم التاريخي، غير الموجود برأيي. الأفلام الواقعية، المنطلقة من العيش اليومي وجرحه ونتوءاته وأساطيره، قادرة على أنْ تكون عملاً سينمائياً تاريخياً ووثائقياً، بالنسبة إلى المُشاهد المُستقبلي. فالتاريخ، ليس مجموعة أحداث وقعت في الماضي، كما اعتبرته المدرسة الوضعية/ المنهجية (لانغوا، سينيوبوس)، بل أضحى لدى مدرسة الحوليات (مارك بلوك، لوسيان فيبر) طريقة في النظر تُفيد بمدى أهميّة ونجاعة هذه الأحداث للمُستقبل. هذا أسماه المُؤرّخ الفرنسي فردينان بروديل، أحد رواد التاريخ الجديد، "المُدة الطويلة". ما يُسمّى في النقد السينمائي "فيلماً تاريخياً"، تعبيرٌ غير دقيق، ويحتاج إلى تفكير وتمحيص كبيرين في مفاهيم كهذه، إذْ لا يستطيع أنْ يكون الفيلم تاريخياً، بالمعنى المُتعارف عليه في تعريف التاريخ وتحقيباته. وبالتالي، فهو مُعمّمٌ.

رغم أنّ الاصطلاح يُقصَد به الأفلام التي تتناول، في عمقها، قضايا سياسية واجتماعية حصلت في الماضي، أو استلهام أحداث ووقائع ومعارك أو سِيَر حياتية لشخصيات تاريخيّة في السلطة والمُقاومة المُسلّحة، (رغم هذا) تظلّ بعيدة عن التعبير الفني والجمالي للتاريخ، بالركون إلى التاريخ "المضموني" (الرسمي)، عوض التعبير عن قضايا مُستترة، تتبرعم على هوامش التاريخ، وهي الأهمّ بالنسبة إلى المُخرج السينمائيّ، لما تُتيح له من إمكانات ثرية على مستوى التخييل وبكل حرية، وتزداد مع كل صورة مُنتجة، بحكم أنّ المُشاهد أو الرقيب لم يسبق لهما أنْ سمعا أو قرأا عن ذلك، فيعتقدان أنّها من صنع الخيال.

الأرشيف
التحديثات الحية

*الثاني لم يجعل من التاريخ موضوعاً له، إذْ يحضر بوصفه صُوراً مُقتنصة ومُتعدّدة، أو كمُحرّك رئيسي للأحداث. هذا التعامل النوعي مع التاريخ بلورته السينما اللبنانية مع جان شمعون ومارون بعدادي وبرهان علوية وغيرهم، بحيث يكون الاستناد إلى التاريخ عملية إجرائية لا توثيقية، لسبر قصص وحكايات وأهوال. الخيال مصدر تستقي منه التجارب أهميّتها وقوّتها وقدرتها على التوغّل في مسام الواقع وجرحه، خاصّة أنّ الواقع نفسه يغدو ضرباً من الخيال الخلّاق، بحكم سورياليته ولاعقلانيته.

هذا التعامل مع التاريخ لم تنتبه إليه السينما في المغرب والجزائر، التي تسقط في فخّ التاريخ الفجّ والمُباشر. هاتان السينماتان تنطلقان من فكرة "فيلم تاريخي"، يُفرز صُوراً أيقونية كاذبة، وإطاراً فنّياً مُركّباً وجامعاً، يحتضن أفكاراً هشّة وحكايات مُرتبكة. الشيء الوحيد الذي يُضلّل به هؤلاء المخرجون جماهيرهم كامنٌ في الفضاءات الشاسعة والغريبة، التي يُصوّرون بها أفلامهم، وحجم الإكسسوارات المُوظّفة في إنتاج صُوَر سينمائية عن أفلام لاتاريخيّة، لا تقرب موضوعها لا من قريب ولا من بعيد.

يبحث السينمائيّ عن المُدهش في طبقات مُترسّبة من التاريخ

في المغرب، حين يُقدِّم مخرجٌ مشروع فيلمٍ له إلى "المركز السينمائي المغربي"، على أساس أنّه "فيلم تاريخي"، يُعرَف أنّ صاحب العمل سينتجُ كارثة سينمائية، لا تستفيد منها إلا الجهات الرسمية، لأنّه يعمل على تمريغ كرامة المُهمّشين بالأرض، وطمس ذاكرة أسلافهم، لصالح كتابة سينمائية تسرد التاريخ الرسمي، خاصّة الوقائع الكبرى التي انتصر فيها المَغاربة. هذا الاستسهال، بقدر ما يُهين كرامة مخرج سينمائيّ، يُحاول أنْ يتحايل على الدعم، الذي يُقدّمه المركز للاستمرار في الكتابة والتصوير، وهو يعرف مُسبقاً أنّ أعمالاً كهذه تُقْبَل لأسابٍ لا سينمائية، تتجاوز اللجان وأساطيرها، إذْ تُنفي التجارب الصاعدة وتسحقها، ولا تمنحها فرصة الاشتغال على مفاهيم جمالية جديدة وأكثر جرأة.

هذه تُمثّل المغرب اليوم في محافل عربيّة ودولية، من دون أن تحصل على درهم واحد من الدعم الممنوح نصفه إلى"الأفلام التاريخيّة"، التي لا يُشاهدها أحد، بمن فيهم فريق العمل.

المساهمون