غامر البشر الأوائل بدخول شبه الجزيرة العربية كجزء من خمس مراحل هجرة على الأقل، على مدى الـ400 ألف عام الماضية، وفقاً لدراسة جديدة نشرت في دورية "نيتشر"، في الأول من سبتمبر/أيلول الحالي. قدمت مجموعة من الأدوات الحجرية وحفريات الحيوانات المكتشفة في صحراء النفود الكبير، في شبه الجزيرة العربية، دليلاً على هذه التحركات التي ارتبط كل منها بفترة وجيزة من تراجع الجفاف.
نظراً لكونها الجسر البري الوحيد الذي يربط بين أفريقيا وأوراسيا، كانت المنطقة القاحلة الشاسعة في شبه الجزيرة العربية محوراً للبحث في تطور أشباه البشر - الإنسان العاقل وأقاربنا المنقرضين - عندما هاجروا من أفريقيا وعادوا إليها. ووفق الاكتشافات الجديدة، فإن خمس هجرات - على الأقل - لأشباه البشر حدثت عبر شبه الجزيرة العربية تتزامن مع فترات خضراء قصيرة ذات معدلات جفاف منخفضة، قبل نحو 400 ألف، و300 ألف، و200 ألف، و130- 75 ألفاً، و55 ألف سنة.
طور الفريق البحثي، الذي يقوده قسم الجغرافيا في "كلية كينغز لندن"، طرقاً لتحديد مواقع البحيرات والأنهار القديمة عبر شبه الجزيرة العربية، كجزء من مشروع دولي كبير ومتعدد التخصصات. يشرف على المشروع البحثي، وعنوانه "شبه الجزيرة العربية الخضراء"، باحثون في "معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ البشرية". وتُعَدّ هذه الاكتشافات أقدم دليل تاريخي على وجود أسلاف البشر شماليّ شبه الجزيرة العربية، وهو ما يضع المنطقة على الخريطة العالمية لعصور ما قبل التاريخ البشري.
لقطاتٌ من أعمال البعثة السعودية الدولية ضمن جهودها في الاكتشافات الجديدة لـ #هيئة_التراث شمال المملكة. pic.twitter.com/3eSeUUUGCn
— هيئة التراث (@MOCHeritage) September 1, 2021
وقال قائد فريق البحث هيو غروكت، من "معهد ماكس بلانك للتاريخ البشري" في ألمانيا، إنّه من غير الواضح أيَّ أنواع أشباه البشر كانت مسؤولة عن إنتاج الأدوات الحجرية الموجودة في أقدم طبقتين، لكن الفؤوس اليدوية المدببة نسبياً تُعزى عادة إلى أسلاف مقربين من جنسنا البشري، مثل الإنسان المنتصب.
وأضاف غروكت، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن نتائج الدراسة تسلط الضوء على أهمية سد الفجوات في خريطة أشباه البشر. إذ لطالما كان ينظر إلى شبه الجزيرة العربية على أنها حيّز مكاني فارغ في الماضي. ووفق المؤلف الرئيسي، فإن أهم نتيجة توصلت إليها الدراسة الحالية، هي أن معرفتنا عن التطور البشري ما زالت محدودة في مناطق شاسعة من العالم.
تتيح تقنيات رسم الخرائط عبر الأقمار الصناعية لفريق المشروع تحديد أهداف المسح والتنقيب الأثري، وهو ما أدى إلى اكتشاف تجويف بين كثبان رملية يبلغ ارتفاعها 90 متراً، شمال شبه الجزيرة العربية، يحمل رقماً قياسياً لكيفية تمكن البشر في عصور ما قبل التاريخ من الانتقال إلى الجزيرة العربية التي كانت خضراء، قبل 400 ألف عام مضت. في التجاويف بين الكثبان الرملية الكبيرة، وجد الباحثون دليلاً على تكوين بحيرة قديمة في موقع خل عميشان الأثري وواحة جبة في صحراء النفود الواقعة شمال المملكة العربية السعودية. تشكلت هذه البحيرات وامتلأت دورياً، في خمسة أوقات مختلفة، ارتبطت باكتشاف الأدوات الحجرية.
تعتبر الاكتشافات الأثرية الحديثة التي أعلنت عنها #هيئة_التراث أطول سجل حضاري للوجود البشري المبكر في الجزيرة العربية. pic.twitter.com/c77kHQr7LJ
— هيئة التراث (@MOCHeritage) September 1, 2021
تساعد الأدوات الحجرية المكتشفة في توثيق كيفية تحول هذه الثقافات البشرية المبكرة. وتنتمي أقدمها إلى الثقافات التي اعتمدت على المعالجات اليدوية، مثل أسلاف البشر الأوائل: الإنسان منتصب القامة، وإنسان هايدلبرغ.
ترتبط مجموعات الأدوات الحجرية بالرواسب المميزة التي خلفتها بحيرات المياه العذبة. لذلك، تظهر النتائج أنه، ضمن نمط سائد من الجفاف، أدت المراحل القصيرة العرضية لزيادة تساقط الأمطار إلى تكوين آلاف البحيرات والأراضي الرطبة والأنهار التي غطت معظم شبه الجزيرة العربية، وتشكل طرق هجرة رئيسية للإنسان والحيوان مثل أفراس النهر. في حين أن صحراء النفود اليوم منطقة قاحلة للغاية، فإن التجاويف العميقة بين الكثبان الرملية الكبيرة خلقت أماكن لتكوين بحيرات صغيرة في أثناء الزيادات العرضية في تساقط الأمطار. ونتيجة لذلك، تحولت منطقة النفود من واحدة من أكثر المناطق غير الصالحة للسكن في جنوب غرب آسيا إلى أرض عشبية خصبة، توفر فرصاً لتحركات السكان المتكررة.
وتعود منحوتات صخرية للإبل وغيرها من الجمليات إلى 7 آلاف سنة على الأقلّ، أي أنها أقدم بكثير مما قُدّر لها وقت كشف النقاب عنها قبل بضع سنوات. وخلص العلماء إلى أن بعض هذه المنحوتات نُقش في الألفية السادسة قبل عصرنا، بواسطة أدوات حجرية وسط سافانا كانت تنتشر فيها الأشجار والبحيرات، تحوّلت لاحقاً إلى صحراء.
واعتمد برنامج بحثي أطلق في سياق تعاون بين وزارة الثقافة السعودية و"معهد ماكس بلانك الألماني للعلوم والتاريخ البشري" و"المعهد الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا"، على مجموعة من التقنيات لتأريخ هذه الأعمال بدقّة، لا سيّما أن حالتها تدهورت بشدّة على مرّ السنين، وفق ما جاء في بيان صادر عن "معهد ماكس بلانك".
ويرى القيّمون على هذه الدراسة التي نُشرت تفاصيلها في مجلّة "جورنال أوف أركيولوجيكل سينس"، في هذا الموقع مثالاً عن "حقبة في التاريخ القديم كانت فيها جماعات الرعاة شمال السعودية تتفنّن على الصخور وتصنع هياكل حجرية ضخمة"، وفق ما نقلت وكالة "فرانس برس".
ورجّح الباحثون أن تكون الجهود التي بذلت لإنجاز هذه المنحوتات الصخرية قد استدعت إرساء سقالات وجلب الأدوات الحجرية على بعد 15 كيلومتراً من الموقع، وتطلّبت عملاً جماعياً من الممكن أن يكون جزءاً من شعائر سنوية لأحد مجتمعات العصر الحجري الحديث. وقد تكون هناك رمزية كبيرة لبعض منحوتات الإبل التي تنطوي على دلالات إلى دورة تكاثر مرتبطة بدورها بتلك الخاصة بالمواسم الرطبة والجافة.
ويعتبر العلماء أن هذا الموقع كان يكتسي رمزية خاصة لقاطنيه، لم يحدّدوا ماهيتها بعد، مع تدخّلات متعدّدة على فترة طويلة لتنقيح المنحوتات.