"ارحمونا من هذا الحبّ القاتل للسينما"

14 نوفمبر 2022
الممثل الهندي رانفير سينغ في افتتاح "مراكش السينمائي 2022" (مارك بْيِساكي/وايرإيماج)
+ الخط -

 

تتكاثر المهرجانات السينمائية المُقامة في مدنٍ عربية. الكثرة غير عاكسةٍ حيوية ثقافية وفنية، غالباً. الحيوية والإفادة نادرتان في الخريطة الكبيرة جداً للمهرجانات. كلامٌ كهذا مُكرّرٌ، لكنّ الهوّة بين الفعل/صانعيه وقراءته النقدية تتّسع كثيراً. المهرجانات المُصنّفة فئة أولى مترهّلةٌ، والمتخصّصة بأنواعٍ وقضايا يندر أنْ يتألّق منها مهرجانٌ، رغم أنّ الندرة هذه أهمّ وأعمق اشتغالاً، كـ"المهرجان الدولي لسينما التحريك (فيكام)" في مكناس المغربيّة، و"مهرجان بيروت للأفلام الفنية"، و"كرامة بيروت: مهرجان أفلام حقوق الإنسان"، و"أيام بيروت السينمائية"، و"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، وغيرها القليل (هناك مهرجانات مهمّة لكونها مساحة مطلوبة للإنتاج المحلي في معظم البلدان العربية). عدم ذكر هذا القليل غير مُنتقصٍ من قيمته الفنية، سينمائياً وثقافياً واجتماعياً. الأمثلة نماذج، لا أكثر.

المعضلة واضحةٌ: مهرجانات كثيرة في مدنٍ عربية، تتنوّع عناوينها واختصاصاتها، وإنْ تفشل في تحقيق حدٍّ أدنى مما تُعلنه اختصاصاً لها. المملكة المغربيّة وحدها تشهد مهرجاناتٍ في مدنٍ كثيرة، يفوق عددها عدد أسابيع العام الواحد. اختراعات تبغي حضوراً لن يتجاوز شهرة، تتفاوت أهميتها ومدى قدرتها على انتشارٍ محليّ وعربي ودولي؛ وعناوين عامة تُثير حماسة مموِّل (رسمي بالتأكيد)، وجهات خاصة أحياناً، فيكون الربح المالي، أو بعضه، مكسباً وحيداً.

فوائد المهرجانات المتكاثرة في الخريطة السينمائية العربية، وإنْ يتّخذ بعضها صفة "دولي"، نادرة للغاية. الاستعراض والأضواء والإعلام، والصحافة الفنية، أي غير النقدية وغير الثقافية وغير السجالية، سمة الغالبية الساحقة من تلك المهرجانات، وبعض الدوليّ منها يُغطي اهتراءً وترهّلاً باستضافة سينمائيين/سينمائيات ذوي اشتغالات تصنع فرقاً أو أكثر في صناعة السينما. مهرجانات عربية دولية تدعو "نجوماً" يفتقدون حدّاً أدنى من المهنيّة والاحتراف، وبعض هؤلاء غير فاعل وغير عامل في بلده. نزاعات، حاصلة في إدارات أو مع مهرجانات محلية أخرى، غير مخفيّة كثيراً، خاصة إزاء من يسعى إلى معرفتها والتأكّد منها، لكشف تأثيراتها على بُنية المهرجان ومغزاه، ومدى الحاجة الفعلية إليه.

 

 

مهرجانات عربية، كالجونة وقبله دبي، "يُمنعان"، بشكلٍ أو بآخر، من استكمال مشروعيهما السينمائيين، لتمكّنهما من بلورة حضورٍ كبير في المشهد السينمائي الدولي، رغم أنّ إيقاف الجونة (2018 ـ 2022) مرتبطٌ، أساساً، بمدى جدّية مؤسّسيه إزاء السينما وإفادتها، فعلاً لا قولاً. "مهرجان دبي السينمائي" (2004 ـ 2017) متمكّن من إضفاء معنى ثقافي وفني لمفهوم المهرجان، وقادرٌ على إفادة النتاج السينمائي العربي، تمويلاً وعرضاً وتواصلاً مع جهات إنتاجية وتوزيعية غربيّة، من دون التغاضي عن جانبٍ استعراضي، يبقى إحدى سمات المهرجانات الدولية كلّها. إيقافه غير واضحةٍ أسبابه، لكنّ كلاماً يُقال عن تواطؤ سياسي مالي ضدّه، إما بسبب التورّط الإماراتي بحرب اليمن؛ وإما لنزاع بين إمارتي دبي وأبوظبي، ولهذه الأخيرة مهرجان غير مستمرّ، أيضاً، وإيقافه سابقٌ على إيقاف مهرجان دبي؛ وإما لقدرة مديره الفني، مسعود أمرالله آل علي، على تأسيسٍ فعلي لسينما إماراتية وخليجية قابلة للتطوّر، وعلى بلورة مساحة سينمائية مُفيدة ومتينة الصُنعة، وهذا يُقلِق مسؤولين حاكمين؛ وإما لأنّ المملكة العربية السعودية تريد دوراً سينمائياً لها، سيظهر في إطلاق "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" (2021 ـ 2022)، في بلدٍ يجهد في تلميع صورته السيئة أمام العالم، متّخذاً من السينما أداة، ومتعاوناً مع عاملين/عاملات في الشأن السينمائي، لبعضهم ثقل معرفي، لن يُتيح لهم/لهنّ جعل هذا المهرجان مهمّاً، بسبب التركيبة الحاكمة في المملكة.

مهرجانات الفئة الأولى (القاهرة، أيام قرطاج التونسية، مراكش الدولي، مثلاً) تفقد، دورة تلو أخرى، مكانتها السابقة، رغم استثناءٍ يصنعه "المهرجان الدولي للفيلم بمراكش" (المغرب)، محاولاً (المهرجان) عبره (الاستثناء) تأهيل نفسه أكثر فأكثر.

هذا كلّه يطرح سؤالين، يُفترض بهما أنْ يُثيرا نقاشاً، رغم أنّهما مطروحان أكثر من مرة، من دون إثارة النقاش المطلوب، ومن حثّ مسؤولي المهرجانات على اهتمامٍ، ولو قليل: هل يحتاج العالم العربي إلى هذا الكمّ الهائل من المهرجانات، وبعضها يميل أكثر إلى احتفال أو نشاطٍ أو إلى تسميات أخرى، كـ"أسبوع أفلام"؟ إلى أي مدى تتمكّن تلك المهرجانات من إفادة السينما العربية؟

الاستثناء موجودٌ، وبعض المهرجانات القليلة حاجة ومطلب، وضروريّ إبقاؤها وتطويرها، لأهميتها متنوّعة الجوانب. أما الباقي؟ فيا ليته يرحمنا من هذا الحبّ القاتل والمُخادع للسينما.

المساهمون