تعيد قضية اعتقال مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، دق ناقوس الخطر إزاء المستوى الذي وصلت إليه الحريات في روسيا، وتحديداً منذ اجتياح أوكرانيا في فبراير/شباط من العام الماضي. الاعتقال يلاحق الكلّ فعلاً، أكان صحافياً أم مدوناً أم والداً لطفلة تكره الحرب. كلّ مختلف متهم في روسيا حتى يثبت العكس، وكل كلمة محسوبة.
خلفية إيفان غيرشكوفيتش لم تشفع له أمام جهاز الأمن الفيدرالي الروسي الذي أعلن اعتقاله بتهم تجسس، الخميس. فغيرشكوفيتش، البالغ 31 عاماً، ابن أميركي لوالدين يهوديين نفيا من الاتحاد السوفييتي واستقرا في نيوجيرسي. "وقع في حب روسيا، ولغتها، وأهلها الذين تجاذب أطراف الحديث معهم لساعات في العواصم الإقليمية، وفرق موسيقى البانك التي تسكّع معها في حانات موسكو"، كتبت صحيفة وول ستريت جورنال التي يعمل لصالحها، الجمعة.
فهو قد توجه إلى روسيا قبل خمس سنوات ونصف، حيث عرفه أصدقاؤه الروس باسم فانيا، لا إيفان. إذن، "أحبّ إيفان غيرشكوفيتش روسيا، لكنها خذلته"، قالت الصحيفة نفسها.
فاز غيرشكوفيتش بجوائز عن عمله لصالح صحيفة ذا موسكو تايمز، ثم انتقل إلى وكالة فرانس برس. سافر إلى روسيا لكتابة تقارير شملت القضايا البيئية، مثل اختفاء سمك السلمون من نهر أمور، والجهود المبذولة لإنقاذ لغات الأقليات الغامضة في روسيا. وانضم إلى "وول ستريت جورنال" في يناير/كانون الثاني 2022.
طبعاً، لم يكن غيرشكوفيتش أعمى عمّا يحصل حوله، ففي يوليو/تموز الماضي غرّد: "التغطية في روسيا الآن تعني أن تشهد طوال الوقت على سجن أشخاص تعرفهم لسنوات". في إحدى المهام، تبعه ضباط أمن روس، وسجل بعضهم تحركاته بكاميرا، وضغطوا على المصادر حتى لا يتحدثوا إليه. افترض أن هاتفه مراقب. وفي رحلة أخرى، إلى منطقة بسكوف الغربية، تبعه رجال مجهولون، وصوروه، وفقاً لـ"وول ستريت جورنال".
الأربعاء، سافر إلى يكاترينبورغ، وهي مدينة تقع في الأورال على بعد 900 ميل تقريباً شرق موسكو، وحُمّل على هاتفه، مثله مثل العديد من المراسلين الأجانب، تطبيق تتبع نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي مكّن زملاءه من رصد تحركاته. افتقده هؤلاء، ورجوا ألا يكون الأسوأ قد حدث. لكن الأسوأ حدث فعلاً. فالخميس، أعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي عن اعتقاله وتوجيه تهم التجسس إليه. وهذه أول قضية من نوعها ضد مراسل أميركي منذ نهاية الحرب الباردة.
وقضت محكمة روسية رسمياً، الخميس، بحبس إيفان غيرشكوفيتش بتهمة التجسس لصالح واشنطن. ونقلت دائرة الأمن الصحافي إلى محكمة مقاطعة ليفورتوفو في موسكو لاعتقاله رسمياً. وشوهد في وقت لاحق أثناء اصطحابه من المبنى قبل إبعاده. وذكرت وكالة أنباء إنترفاكس أن المحكمة أمرت باحتجازه حتى 29 مايو/أيار. وقال جهاز الأمن الفيدرالي إنه "أوقف الأنشطة غير القانونية"، وإن المراسل كان "يتصرف بناءً على تعليمات أميركية" و"يجمع أسرار الدولة".
ونقلت "بي بي سي" عن محاميه أنه لم يُسمح له بدخول قاعة المحكمة. وذكرت وكالة تاس للأنباء أن الصحافي نفى التهمة، بينما لفتت وكالة أنباء ريا نوفوستي الحكومية الروسية إلى أن المحكمة أُخليت، في وقت سابق، من الموظفين والزوار بسبب تهديد بوجود قنبلة.
في اليوم التالي، أكد الكرملين أن جميع الصحافيين الأجانب المعتمدين يمكنهم مواصلة العمل في روسيا، وزعم أن إيفان غيرشكوفيتش كان يقوم بأعمال تجسس "تحت غطاء" الصحافة. ولم تنشر روسيا أي أدلة تدعم التهم. وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، للصحافيين، الجمعة: "جميع الصحافيين الذين لديهم اعتماد سارٍ هنا، أقصد الصحافيين الأجانب، يمكنهم مواصلة نشاطهم الصحافي، وهم يواصلونه بالفعل في البلاد. لا يواجهون أي قيود، ويعملون بشكل جيد". وكرر بيسكوف تأكيده أن مراسل الصحيفة الأميركية "ضُبط متلبساً بالجرم"، لكنه رفض الاستطراد في تفاصيل القضية التي أُبقيت سرية حتى على الفريق القانوني للمراسل. وحث بيسكوف واشنطن أيضاً على عدم الرد بطرد الصحافيين الروس العاملين في الولايات المتحدة.
الرئيس الأميركي جو بايدن طلب، الجمعة، من روسيا إطلاق سراح غيرشكوفيتش. وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قال، الخميس، إن الولايات المتحدة "قلقة للغاية" بسبب أنباء احتجاز إيفان غيرشكوفيتش، وندّد بالإجراءات الروسية ضد وسائل الإعلام. كما ذكر البيت الأبيض، في بيان، أن وزارة الخارجية الأميركية على اتصال مباشر بالحكومة الروسية وأسرة المراسل والصحيفة. وأضاف: "لا تزال وزارة الخارجية تنصح المواطنين الأميركيين المقيمين في روسيا أو المسافرين إليها بمغادرتها على الفور".
من الجانب الآخر، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الخميس، لـ"رويترز"، إن "الجانب الأميركي طلب من خلال القنوات الدبلوماسية الوصول القنصلي إلى المواطن الأميركي إيفان غيرشكوفيتش"، و"سيُسمح بالوصول القنصلي إليه في الوقت المناسب".
وسبق أن نقل الإعلام الرسمي عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، قوله الخميس، إنه من السابق لأوانه الحديث عن تبادل محتمل للسجناء يشمل إيفان غيرشكوفيتش. ونقلت وكالة إنترفاكس للأنباء عن ريابكوف قوله إن عمليات تبادل سجناء مثل هذه جرت في السابق بالنسبة لأولئك المُدانين بالفعل، وإنه من الضروري الانتظار لمعرفة تطور تفاصيل قصة غيرشكوفيتش.
"وول ستريت جورنال" عبرت عن تضامنها مع المراسل وعائلته، وقالت في بيان إنها "تنفي بشدة مزاعم جهاز الأمن الفيدرالي، وتسعى للإفراج الفوري عن مراسلها الموثوق والمخلص إيفان غيرشكوفيتش". ودعت في افتتاحيتها، الجمعة، إلى طرد السفير الروسي لدى الولايات المتحدة والصحافيين الروس العاملين هناك، رداً على اعتقال مراسلها. وأضافت أن "توقيت الاعتقال يبدو وكأنه استفزاز محسوب، لإحراج الولايات المتحدة وترهيب الصحافة الأجنبية التي لا تزال تعمل في روسيا".
وفي السياق نفسه، قالت مديرة الوكالة الأميركية التي تشرف على وسائل الإعلام التي تمولها واشنطن، ومن بينها إذاعة صوت أميركا، أماندا بينيت، إن توقيف صحافي أميركي في روسيا يظهر أن التهديدات ضد الصحافيين في أنحاء العالم تتزايد "بشكل كبير". وأضافت، متحدثة لـ"فرانس برس"، أن مناخ التضليل وترهيب الصحافيين يوضح مرة أخرى الحاجة إلى وسائل إعلام قادرة على الوصول إلى السكان في دول مثل الصين وإيران وروسيا. وأكدت أن "الصحافة ليست جريمة. ينبغي عدم احتجاز الناس. ينبغي عدم القبض على الناس بسبب تغطيتهم الصحافية".
وتحدث الصحافي الروسي الحائز على جائزة نوبل دميتري موراتوف، الجمعة، عن قضية إيفان غيرشكوفيتش، معتبراً إياها جزءا من توجه أكبر لجعل الصحافة "مهنة خطيرة" في روسيا. وأمل موراتوف أن تنجح الجهود الدبلوماسية في الإفراج بسرعة عن غيرشكوفيتش، وفقاً لما نقلته "رويترز".
ودانت جماعات الدفاع عن حرية الصحافة اعتقال غيرشكوفيتش، وهو أول اعتقال لصحافي أجنبي منذ الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي، وفقاً لمنظمة مراسلون بلا حدود. وغيرشكوفيتش أول صحافي أميركي يُحتجز بتهم تجسس في روسيا منذ اعتقال نيكولاس دانيلوف عام 1986، وفقاً لما وثقته لجنة حماية الصحافيين. ووفقاً للجنة نفسها، هناك 363 صحافياً في السجون حول العالم، اعتباراً من ديسمبر/كانون الأول، من بينهم 199 محتجزاً بسبب مزاعم عن أنشطة "مناهضة للدولة".