جذب إسماعيل العراقي الانتباه إليه عام 2009، عند نيله تنويهاً وجائزة للموهبة الواعدة في "مهرجان كليرمون فيرون"، عن فيلمٍ قصير انفجاري غير مُهادنٍ ومتجذّر في سينما النوع، بعنوان "حْرَش". لم يحد كثيراً عن هذه المعالم في فيلمه الطويل الأول، "زنقة كونتاكت": تلتقي رجاء (خنساء باطما)، فتاة ليلٍ لم تتمكّن ظروف الاشتغال القاسية في شوارع الدار البيضاء من سَحق قوّتها، بلارسن (أحمد حمّود)، ملاك موسيقى الـ"روك"، الساقط في الإدمان والرؤى الكابوسية. معاً، يحترقان في حبّ مستعر بتناقضات شخصيتيهما، وصراعهما مع قوى الاستغلال والاحتقار، المتمثّلة في القوّاد سعيد (سعيد باي)، ورجل العصابات النافذ (توفيق بوبكر)، الذي يبعث حارسه السّادي (مراد الزاوي) في إثرهما.
هناك نوع من الحنق يسكن شخصيات إسماعيل العراقي، ويتفجّر في نظراتها وحركاتها وكلماتها، سعياً إلى التحرّر من أغلال الجسد، وتمثّلات المجتمع، والقيد الذي يضعه شرط الشخصيات نفسه أمامها، المتمثّل هنا في ماضٍ عنيدٍ لا يفتأ يقضّ الرؤى، مُثنياً العزم على معانقة الحبّ، والفرص الثانية للانعتاق.
تغنّي رجاء على أنغام غيتار لارسن، ويتوافق وجودهما بعد صراعٍ، يضبط العراقي إيقاعه بشكل تصاعدي آسر، وفق مفاتيح الـ"ثريلر" ونزالات الـ"وسترن". تقوم جمالية "زنقة كونتاكت" على شريط 35 مم والموسيقى، من غير أن يكون غنائياً. تحكم الموسيقى الاختيارات فيه، على مستوى أكثر إثارة للاهتمام من مجرّد عنصر كمالي. إنّها اللّحمة التي تضفي إيقاعاً موزوناً على الحوارات، ومناخات آسرةٍ بالتوحّد الوجداني على اللقاءات، ونَفَساً ملحمياً طالعاً من الأحشاء، يجعل الفيلم صادقاً حتّى في لحظات هشاشته.
عُرض "زنقة كونتاكت" أوّلاً في قسم "آفاق"، في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، وفازت خنساء باطما بجائزة أفضل ممثلة، قبل أنْ يُدشّن جولة مشاركات في مهرجانات مهمّة، كلندن وبوسان وكارلوفي فاري وساو باولو وغيرها، فائزاً بجوائز عدّة، منها جائزة لجنة تحكيم الدورة الـ42 (16 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2020) لـ"سيني ميد مونبولييه"، وجائزة أفضل فيلم روائي طويل في الدورة الـ10 (25 ـ 31 مارس/آذار 2021) لـ"مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية".
بمناسبة العرض ما قبل الأول لـ"زنقة كونتاكت"، عشية إطلاق عروضه التجارية في الصالات المغربية، التقت "العربي الجديد" إسماعيل العراقي في الدار البيضاء.
(*) مشهد لقاء رجاء ولارسن في حادثة السير، عند افتتاح "زنقة كونتاكت"، مهمّ، لأنّه يُمكّننا من رؤية الشخصيتين كجسمين ميّتين، كان ينبغي تسريعهما وصدمهما معاً، كما في فيزياء الكمّ، لتحرير الطاقة التي تتخلّل الفيلم بأكمله.
المشهد الأول بالنسبة إليّ، بصرف النظر عن دوره في تقديم الشخصيات والدار البيضاء، والطريقة التي انتهجتها في تصويرها، مهمّ لسببين. في البداية، هناك مشهد عام للمدينة، أُكبِّر الصورة لاكتشاف رجاء، التي ترتدي سترة حمراء وتضع جوهرة فضية على صدرها، تجسّد نجمة. هذه طريقة للقول، بعبارة أخرى، أنّ هذا مغربنا أيضاً، وأنّ هذا المغرب موجود أيضاً. الأمر الثاني مسألة المعقولية والواقعية التي تُثار في النقاش حول الفيلم المغربي. أردتُ القول منذ البداية إنّ هذا الفيلم غير واقعي. هذا لا يعني أنّه مجرّد من العناصر الواقعية، لكنّه ليس فيلماً واقعياً. لماذا؟ لأنّ رجاء تحكي نكتة في سيارة التاكسي، وما ترويه في النكتة يحدث أمامنا فعلياً. هذه طريقة للقول إنّ هذا "فيلمٌ مع ثعابين سامّة وهلاوس وضربات غيتار على الأذقان". فيلمٌ من وحي الخيال، لكنّه خيال مغربي.
(*) المثير أيضاً أنّ هذا المشهد يجلب فكرة المطهر، وكأنّ الشخصيات قضت فعلاً في الحادثة، وأنّ الفيلم سيكون بمثابة امتحانٍ لها.
لستُ متأكداً ممّا إذا كنت سأستخدم مصطلح الامتحان. لكنْ، بالنسبة إليّ، كان مهمّاً التقاط الشخصيات في لحظة تحوّل، أو في لحظة اختيار تتغيّر على إثرها حياتها بشكل كبير. نكتشف رجاء عندما اتّخذت فعلياً مساراً في مرحلة من حياتها، لم تعد قادرة على تحملّها. أما لارسن، فلا يتّخذ قراراته أصلاً، والآخرون يقرّرون له وعنه طيلة الفيلم. لا يفعل شيئاً سوى تلقّي الضربات. قلب الفيلم قصّة حبّ عن كيف ينجو المرء بعد أنْ يكون ضحيّة. لارسن ضحيّة. بالنسبة إلى رجاء، سئمتُ من كيفية تمثّل النساء، ليس فقط في المغرب، بل في البلدان الإفريقية والعربية أيضاً. كفى هيمنة الخطاب حول المرأة كضحيّة، والأطروحات حول مكانة المرأة، وأنّ كلّ شخصية نسائية تمثّل المرأة بشكل عامّ. أين هذه المرأة التي يتحدّثون عنها؟ هل قابلتها سابقاً؟ من خلال النساء تُكتَب شخصيات مُحدّدة، تُجسّد أفكاراً معينة.
مهمٌّ أيضاً أنْ نتمثّل فكرة القوّة والحضور والسخاء، التي نجدها عند النساء في كل مكان، وفي النساء المغربيات. نشأتُ مع نساء كهؤلاء، قويّات وعاملات، ويخلقن طاقة. للأسف، لا أراهنّ في السينما.
(*) لا تفتأ تُذكِّر أنّ الفيلم كُتِب لخنساء باطما. هذا صحيح، لأنّها تحمله بشكل جيّد، خصوصاً أنّك وظّفتها بشكل عكسي، نوعاً ما. كنتُ أراها شخصية حسّية في المقام الأول، لكنّك جسّدتها في صورة قوية وجسدية، في قرارٍ محفوفٍ بالمخاطر حقاً.
لا بُدّ من المجازفة. حين تنتفي المجازفة، فأنت لم تعد في السينما. خنساء تحبّ المخاطرة أيضاً. خنساء ليست شخصية ملساء أبداً. في فترة باكرة من حياتها، اختبرت تجربة عرض الأزياء. لذا، هي تعرف جيّداً معنى أنْ يكون الشخص أملساً. خنساء تبدع موسيقى الـ"روك". كلماتها وألحانها ذكيّة بشكل لا يُصدّق. ينضح فنّها بالقوّة والشجاعة. أعتبرها، مع شقيقها، الوريثين الحقيقيين للعربي باطما (عمّها العربي باطما من أهم أعضاء مجموعة "ناس الغيوان" ـ المحرّر).
في الواقع، أعتبر أنّها هي التي حرّرتني. بمجرد وصولك إلى التصوير، سيكون هناك دائماً خطر الوقوع في النمطية أو الكليشيهات، التي تتعلّق أيضاً بطريقة التصوير. كأنْ تعتبر أنّ المرأة يجب أن تُصوّر بطريقة معيّنةٍ، بينما يُصوَّر الرجل بطريقة أخرى. هذا متأصّل في طريقة تفكيرنا. مع خنساء، نجحت في كسر هذا النوع من التمثّلات. في البلاتوه، عندما أدرك فريق التصوير ـ المُكوّن من مُصوّرين سينمائيين مقرّبين جدًا مني ـ ما أريد، كانوا متوجّسين: "هل تريد حقاً التصوير بهذا الشكل؟" قالوا لي: "هذا صعب بعض الشيء، وغير اعتيادي". أجبتُ: "نعم، أريد كسر جمال الشخصيات. أرغب في الجمال الآتي من الشوارع، لا جمال المجلات الصقيلة".
ما حصل أنّ كاستينغ خنساء وأحمد سمح بعكس التمثّلات. صوّرتُ خنساء بالطريقة نفسها التي كان يُصوَّر بها جون واين: زاوية منخفضة، وحركة بطيئة، ولقطات أميركية، وتتبع كثير إلى الخلف لتبدو كما أنّها هي من تدفع الكاميرا. الطريقة الكلاسيكية التي كان يُصوَّر بها رعاة البقر حقاً. بينما كان الأمر مختلفاً بالنسبة إلى أحمد، لأنّي صوّرته كما اعتادت الأفلام المصرية الكلاسيكية اتّباعها في تأطير فاتن حمامة. هذا يعني أنْ يُلتَقط بكاميرا مرتفعة قليلاً، وأنْ تكون عيناه شفّافتين دائماً، مع ضوء قوي جداً عليه.
(*) حتى حقيقة أنّه هو الذي يعرض جسده مع الوشم وليس رجاء.
بالتأكيد. هو من يتجرّد من ملابسه، ويُجسّد شكلاً من الحسّية والوداعة. هو من يظلّ صامتاً في الغالب، وهي من تتحدّث. كثيرٌ من العناصر الأنثوية جسّدها أحمد، فيما وسمت العناصر الذكورية شخصية خنساء. هذه الأخيرة هي أيضاً من يُحرّك القصّة، وهي التي قالت "لا، لا يُمكنني الاستمرار على هذا المنوال"، في لحظة محدّدة.
(*) مراد الزاوي أيضاً كان توظيفاً معاكساً تماماً، لأنّه غالباً ما يوظّف في دور الفتى الوسيم واللطيف، لكنّه هنا يُعبّر عن شخصية غير متّزنة، تبعث على الفزع، أدّاها بشكل موفّقٍ من المسافة والغموض السادي.
نعم، تماماً. شخصية مراد بدت كأنّها تقضي عطلة نهاية أسبوع جيّدة. أعتقد أنّ إحدى نقاط قوّة الفيلم أنّه صُنع مع ممثّلين يجسّدون عائلة، وأنّي كتبته لأشخاصٍ أعرفهم جيّداً، وأحبّهم وأقدّرهم. كتبتُ لكلّ ممثل في الفرقة دوراً يناسبه. شخصية مراد كُتبت خصيصاً له، وسعيد كُتب من أجل سعيد باي، ورُقيّة كُتبِت لفاطمة عاطف، وشخصية أوباما كتبتها لعبد الرحمن أوبيهام. مراد ممثّل أحترمه كثيراً. إنّه تقني للغاية. مسرور للعمل معه، لأنّ لديه ذلك الجانب الأميركي في الاستعداد للتصوير، بعد أنْ يحفظ حواراته، ويعرف علامات تحرّكه جيداً، ويهتمّ بالتفاصيل الصغيرة.
(*) مشهد الحفل الموسيقي مُثير للإعجاب. كيف صوّرته؟
في الواقع، من أهمّ ما يميز الفيلم أنّه صُوِّر على شريط 35 مم "سينما سكوب". هذا يستهلك الكثير من الفيلم، بينما لم تكن لديّ ميزانية كبيرة. الطريقة التي صُوّر بها الفيلم أجبرتني، منذ البداية، على أنْ أكون راديكالياً في اختياراتي. مثلاً: هناك مشاهد أعلم جيداً أنّي سألتقطها في محاولة واحدة، ولن تكون لدي أي لقطات قطعٍ أو حقلٍ في المقابل. كنّا كفرقة موسيقى "روك" تقوم بجولة. أي أنّنا جميعاً لم نكن نفعل شيئاً سوى التمرين.
بالنسبة إليّ، التدريبات مهمة جداً، ولا أؤيّد الارتجال إطلاقاً. أكتب كثيراً، وأعيد الكتابة يومياً. أنا أوّل من يستيقظ، وآخر من ينام، لأنّي أعيد الكتابة ليلاً، خصوصاً الحوارات، وأحياناً المشاهد، وأعيد التقطيع التقني صباحاً. أذهب إلى التصوير مع تقطيعٍ جاهز بنسبة 100 بالمائة، مع الـ"ستوري بورد" وكلّ شيء. ضروريٌّ التحضير جيداً، لأن شريط الفيلم كان كافياً بالكاد. ظروف التصوير تُجبرك على القتال باستمرار. رائعٌ فعلياً أنّ شيئاً ما نجا من هذه الحرب: أنْ تُصوّر بـ35 مم "سينما سكوب"، بديكورات جلّها مُشيّدة، وأزياء كلّها مُصمّمة، وإكسسوارات مصنوعة للفيلم، وموسيقى مسجّلة خصيصاً له، مع طاقم ممثّلين من هذه القيمة.
(*) كان هذا تحدّياً صعباً.
اقتصادياً، لم يكن الأمر مُجرّد تحدٍّ، بل مستحيل عملياً. أصبح مُمكناً فقط، لأنّ كلّ فرد في الفريق، من المُشرف على الآليات إلى الـ"سكريبت"، مروراً بمدير التصوير والممثّلين، وضع من شخصه مساهمةً تتجاوز المنتظر منه بالنسبة إلى فيلمٍ عادي. قبل التصوير، تدرّبنا كثيراً، إلى درجة أنّنا احتجنا فقط إلى محاولة واحدة لالتقاط المشاهد. هناك مشاهد رئيسية، إذا أخبرتك أيّها سينتابك الفزع منها حقاً، تمّ تصويرها في محاولة واحدة.
من ناحية أخرى، هناك شيء واحد لم أتخلّ عنه أبداً، بفضل خنساء والموسيقيين المختلفين المشتغلين في الفيلم، نيل نجاي على الغيتار، وموسيقيو "كادافار" (فرقة "هارد روك" ألمانية ـ المحرّر). كلّ شيء عُزف بشكل حيّ أمام الكاميرا. عندما كانت خنساء تغنّي، كانت تفعل ذلك مع نيل، الذي يعزف على الغيتار. وعندما كانت فرقة "كادافار" تعزف أثناء الحفلة، صُوِّر هذا بـ35 مم، من دون لقطة واحدة على الكتف.
(*) كانت الكاميرا موضوعة على قوائم.
نعم. صوّرنا الحفلة بالأسلوب الكلاسيكي لهوليوود، مع لقطات تتبّع، وكاميرا موضوعة. كاميرا الـ35 مم في الخندق، وسط فنّاني الـ"ميتال". أردتُ أنْ يصل إحساس حفلة موسيقى الـ"روك" إلى الجمهور بأيّ ثمن. هذا مهمٌّ كتحدٍّ فنّي، خصوصاً أنّ فريق الصوت، بأغلبه، مؤلَّفٌ من أشخاص متشبّعين بثقافة الـ"ميتال": أمين وازو عازف الطبول في فرقة "هاوسة"، وجمال قنديل كان عازف غيتار في "توريس"، مجموعة "ميتال"، وأموزو عبد الرزاق، مهندس الصوت، بطلٌ في فنّ الصلام. نادراً ما تُلتَقط تجربة الموسيقى الحيّة في السينما.
تصوِّر الأفلام الحفلات الموسيقية عادةً بشكل أملس للغاية. يتبعون قرص الموسيقى المسجّلة، ونادراً ما يلتقطون تجربة وإيقاع الجمهور. مهمّ لي أنْ تكون الحفلة جسدياً وحسّياً. هذا يمرّ كثيراً عبر الصوت ودفء الصورة. لذا، قرّرت التمسّك بالتصوير بشريط 35 مم، لأنّه يتفاعل جيّداً، كالعين البشرية قليلاً، مع الإضاءة المنخفضة. يمنحك لمسة دفء على الوجوه.
(*) خصوصاً أنّ الألوان الدافئة تهيمن على لوحة الفيلم.
بالضبط. هذا ما قصدته عندما قلتُ إنّي أريد داراً بيضاء مختلفة. أردتُ داراً بيضاء ساخنة. أنتَ تعلم تلك الصورة: الساعة 6 مساءً، مع بدء غياب الشمس على الشوارع، ما يُضفي ضوءاً استثنائياً. هذه الدار البيضاء التي أردتها. يبدو الأمر كأنّ الفيلم بأكمله يجري في الساعة 6 مساء. أردتُ في الواقع إحساساً بالمدينة، أكثر من المدينة نفسها.