في الدورة الـ20 (6 ـ 11 مايو/ أيار 2022) لـ"المهرجان الدولي لفيلم التحريك (فيكام)" بمكناس المغربيّة، التقت "العربي الجديد" أحد أبرز سينمائيي أفلام التحريك في اليابان والعالم، أيومو واتانابي، فكان حوار (ترجمة إلان نغويان) عن تفاصيل مختلفة في اشتغالاته ووعيه المعرفي وثقافته وبلده.
(*) فيلمك الأخير، "الحظ يبتسم للسيدة نيكوكو"، يختلف عن فيلمك السابق، إلى درجة أنّك كسرت أفق توقّعات المتفرّجين قليلاً. هل كانت لديك هذه النيّة لتحقيق فيلم ضد الآخر، بمعنى ما؟
لا أعتقد أنّه يُمكنني الموافقة على هذا بطريقة لا لبس فيها. الأمر مُعقّد للغاية. ما هو على المحك، في الأفلام التي أعمل عليها، رهانات بسيطة. أحياناً، ربما تكون تبسيطية حتّى. ما يُقلقني دائماً أنْ يشعر المُشاهد أنّ ما أحكيه له بديهيّ جداً. أعمل على أشياء واضحة، لا نهتمّ بها في حياتنا اليومية، ولا نفكّر فيها، فنمرّ إلى جانبها من دون أنّ نلحظها. لهذا، أحاول زرع عناصر "تعلّق" (أكروشاج) تجذب الانتباه، أو تفاجئ المُشاهد، أو تُثير فضوله.
فكرة خيانة التوقّعات جزءٌ من ذلك أيضاً. أي أنْ تكون حيث لا يتوقّعك أحد. الفكرة، إذا أردت إعطاء صورة تمثيلية، أنْ تتخيّل ورقة من جريدة يومية، وأنْ تسعى ـ بعملك على الفيلم ـ إلى صنع ثقوب دقيقة في الورق بواسطة إبرةٍ، من أجل رؤية شيء يتجاوز المكتوب على الورق. في الواقع، الاقتباس إلى السينما عملية تكمن، باعتقادي، في ترسيب الأشياء. في البداية، تكون العناصر في شكلٍ فوضويّ، نوعاً ما، أو يشوبها نوعٌ من الاضطراب الظاهر. ثم، شيئاً فشيئاً، يحدث شكل من أشكال التطهير والتصفية.
هناكٌ نقاءٌ يظهر، كما عندما نمرّر الأشياء من خلال مرشح، وما يتبقى في النهاية هو الجوهر. يمكن أيضاً تمثّل ذلك بصورة الساعة الرملية، مع وجود ممرٍّ ضيّق جداً في المنتصف، بحيث تنجح في النهاية، من خلال المضي قُدماً في التصفية، في مشاركة المُشاهد ما يبقى الأهمّ.
أودّ القول، بشكل أساسي، أنّ مقاربتي، من وجهة النظر هذه، لم تتغيّر بين "أطفال البحر" و"الحظّ يبتسم للسيدة نيكوكو".
(*) تستغرق مُقدّمة الفيلم وقتاً طويلاً لتثبيت الأمور، مع التركيز بشكل خاص على نيكوكو: شكلها، ووظيفتها في المطعم، وشخصيتها، وماضيها مع الرجال، حتّى نعتقد أنّه فيلمٌ من شخصية رئيسية واحدة، وتدريجياً، تأخذ كيكورين أهمية متزايدة، حتى نستقرّ على شكل من أشكال الازدواجية بين شخصيتين متباينتين. هل هذه البنية موجودة، بالفعل، في الرواية؟
شكراً لقراءتك هذه. يسعدني أنّك تعمّقت في عناصر الفيلم إلى هذا الحدّ. أنتَ مُحقٌّ في أنّ الوقت الذي يستغرقه التقديم طويلٌ نسبياً، ما يعني أنّه سيكون هناك مشاهدون لن يدخلوا الفيلم، لأنّهم ربما سيشعرون بهذا التسلسل في كلّ طوله. ردّ فعلهم على هذه المقدمة يُمكن أنْ يحدّد تصوّرهم عن الفيلم بأكمله، بعد ذلك. من زاوية النظر هذه، ينطوي هذا النهج، طبعاً، على مخاطرة كبيرة، أو مُراهنة غير هيّنة.
(*) ماذا عن العنوان؟ ليس واضحاً، إطلاقاً، نظراً إلى محتوى الفيلم.
المشكلة، في الواقع، أنّ الترجمة الفرنسية ليست حرفية للعنوان الياباني، الذي احتفظ بالعنوان نفسه للرواية: "نيكوكو من ميناء الصيد". الفكرة في العنوان الياباني أنّ هناك نوعاً من تباين يتمّ إنشاؤه بين ميناء الصيد، حيث تُصطاد الأسماك المُقدّمة في مطعم نيكوكو، وشخصية هذه الأخيرة، التي تبدو ممتلئة الجسم.
(*) تلاعبٌ في الألفاظ، أو تورية؟
هناك فعلاً فكرة التورية، أو التباين بين الأسماك واللحم البشري، وأيضاً فكرة السعادة الحاضرة في العنوان. في النسخة اليابانية أيضاً، تساءلت عمّا إذا كان من الأفضل تغيير العنوان. لكنْ حين رأيت أنّه لا يُثير مُشكلةً لأيّ أحد، وضعتُ اقتراحي جانباً، واحتفظتُ به. باللغتين الفرنسية والإنكليزية، حاولوا اختيار عنوان آخر لنقل فكرةٍ مُشابهة، مع الاحتفاظ باسم العلم "نيكوكو"، وأرادوا، من ناحية أخرى، أنْ يكونوا أوضح حول فكرة الحظّ، أو السعادة.
(*) تشير قراءات إلى أنّ اختيارَ الشخصية الرئيسية كامرأة في علاقة متعةٍ مُفرطةٍ مع الحياة مجازفةٌ، نظراً إلى الطبيعة الأبوية للمجتمع الياباني. هل توافق على هذه الطريقة في رؤية الأشياء؟
هناك مسارات عدّة يخوضها الناس في حياتهم، ومشاكل كثيرة تُشغل بالهم، يتظاهر كثيرون منهم بأنّهم لا يرونها. بغضّ النظر عن اختيارات الحياة، التي يقوم بها كلّ منا، أعتقد أنْ لا أحد في وضعٍ يسمح له بالتعليق أو الحكم من وجهة نظر مُتعالية على اختيارات الآخرين في الحياة. لا أحد لديه الحقّ في القيام بذلك. من السخف الاعتقاد بأنْ لدينا الحقّ في إصدار الأحكام على طريقة حياة الآخرين. لذا، فالسؤال ليس كيف تكون سعيداً، أو هل من حقّك أنْ تبحث عن السعادة. طبعاً، هذا أمر منطقي وطبيعي تماماً. ما يهمّني، قبل كلّ شيء، كيف يُمكننا بلوغ نوعٍ من السخاء، أو شكل من التفكير المُشترك حول ماهية السعادة، من دون أنْ نخوض في منطق المقارنة، أو أنْ نشعر بالحاجة إلى قول "هذا الشخص يبدو أسعد منّي، وبالتالي يجب أنْ يفعل كذا وكذا"، أو "أنا أسعد من الآخر"، من دون أنْ نكون في هذا النمط من السباق، الذي ينبع من الحاجة إلى الحكم على الآخرين، والذي، في نهاية المطاف، أصل كلّ أنواع الضغوط والإكراهات الاجتماعية، التي نفرضها على الآخرين.
هناك قيود اجتماعية كثيرة، لا أساس لها من الصحّة، بالنسبة إلي. مثلاً، يبدو أنْ نيكوكو تعيش حياة شاقّةً وصعبة. لكنْ، واضح أنّها سعيدة بهذه الحياة. لماذا يجب أنْ نُصدر حكماً خارجياً على هذا. يبدو الأمر كما لو أردنا أنْ نُقرّر مكانها ما يجب أنْ يجعلها سعيدة. هناك ممثل كوميدي مشهور في اليابان اعتاد أنْ يقول إنّنا وُلدنا جميعاً عراة، وعندما نموت سنغادر مع ثوبٍ على الجسد، ما يعني أنّنا تمكّنا، على الأقلّ، من تحقيق شيءٍ ما. الممثّل، الذي اعتاد تكرار هذا القول، هو نفسه سانما أكاشيا، الذي طرح فكرة اقتباس هذه القصة، والذي أنتج الفيلم.
(*) نشعر بحمولة تعاطف قوية مع شخصية نيكوكو في الفيلم، رغم علاقتها الخاصة جداً مع العالم. هذا أعتبره ضربة مُعلّم حقّقْتَها. يتركّز هذا الجانب في مشهد المستشفى الرائع، حيث تكشف نيكوكو وكيكورين عن نفسيهما، في انفجارٍ داخلي للعواطف التي احتوت عليها كل واحدة منهما في الفيلم كلّه. هل اشتغلتَ على هذا المشهد بحيث ينصبّ الفيلم بأكمله تجاهه؟
يستجيب بناء هذا المشهد، بالنسبة إلي، للّحظة في القصة، حيث أمكننا الكشف على الجوهر العميق لشخصية نيكوكو بأكثر الطرق فعالية. يُشكّل هذا النسق، إلى حدّ ما، قاعدةً نحويةً في السينما اليابانية. لا أعرف ما هو الحال بالنسبة إلى البلدان الأخرى. لكنْ، في اليابان، لدينا ميلٌ إلى تمثّل شخصية صامتة إلى حدّ ما، لا تفصح عن نفسها في كلّ القصة. وفي مرحلة معيّنة، تكشف عن وجهها الحقيقي، في خطوةٍ حاسمةٍ بالنسبة إلى مصيرها. المثل النموذجي على ذلك كشفُ الأب عن عاطفته تجاه ابنته، عشية زفافها.
(*) كما هو الحال في أفلام أوزو (يتعلق الأمر بمشهد من "طعم سانما"، آخر أفلام ياسوجيرو أوزو ـ المُحرّر).
بالضبط. نرى مشهداً مؤطّراً من الخلف للأب، وهو يكشف مشاعره لابنته. هذا اعتدنا عليه في اليابان. لذا، طبيعيّ أنّي اخترت الكشف عن جوهر شخصية نيكوكو في هذا المشهد، باعتباره الحلّ الأكثر نجاعةً.
(*) هناك تفصيلٌ في هذا المشهد يُركّز أسلوبك، في نظري. في كل مرّة تفصح فيها كيكورين عمّا يختلج في قلبها، تشيح نيكوكو بوجهها تحت وقع المفاجأة، ويترافق ذلك مع تأثيرٍ صوتي كوميدي مألوف في الثقافة اليابانية ـ أخمّن في البرامج التلفزيونية لتاكيشي كيتانو مثلاً ـ تجازف من خلاله بكسر إيقاع المشهد الحزين إلى حدّ كبير. تلافي السقوط في العاطفية شيءٌ محمود، لكنّ المخاطرة إلى هذا الحدّ بإدماج هذا التأثير، والنجاح رغم ذلك في رهان خلق مشاعر قوية في وجدان المُشاهد، شيءٌ يُسحرني ويتجاوزني في الوقت نفسه.
شكراً لك على هذا السؤال الدقيق. المهمّ، بالنسبة إليّ، في هذا المشهد، حقيقة أنّ نيكوكو لا تعرف كيف تكذب. هذا المقطع يوضح عجزها عن ذلك. تتفاجأ، إلى هذا الحدّ، لأنّ ما تُخبرها به ابنتها ليس سوى الحقيقة العارية. مُهمّ، في نظري، إظهار صفاء شخصية نيكوكو ونقائها، حتّى لو استدعى ذلك خلق بعض الضحكات في القاعة، للحظات. رغم أنّي أشكّ في أنّ هذه اللقطة تولّد الضحك تلقائياً. بوسعي القول إنّ الشخصية يُمكن أنْ تبدو حزينة جداً، حتّى من داخل صراحتها وطيبتها المُضحكة. الأساسيّ لي إعطاء الشكل الأكثر بديهية لهذه الصراحة من داخل الشخصية. نُؤخذ دائماً على حين غرّة عندما نواجه الحقيقة.
(*) كيف استُقبِل الفيلم في اليابان، في السياق العام للمصير المخصّص لأفلام التحريك في صالات السينما؟
ما يُمكنني قوله إنّ حقيقة أنْ فيلماً كهذا يوجد ببساطة، أو أمكن إنتاجه وإنهائه وعرضه في الصالات، هذا بحدّ ذاته شيء قريب جداً من المعجزة. بمعنى أنّ بنية سينما التحريك نفسها في اليابان تفضي إلى أنّ كلّ شيء يميل إلى أنْ يتمحور حول الإنتاجات الضخمة، والنجاحات العملاقة: شباك التذاكر، والتوزيع، والاهتمام بالمخرجين العاملين في هذا النوع من الأفلام.
تميل الميزانيات إلى التجمع حول هذه المشاريع، وتوفّر لها الصالات مساحة أكبر. كلّ شيءٍ في مهنة الأفلام في اليابان يدور حول هذه الآلات الكبيرة. حسناً. بعد ذلك، فيلمٌ كهذا، مُستقلّ ومأخوذ من رواية غير معروفة، ومشروع غير بديهي النجاح، ولا شيء فيه يندرج تحت أوصاف هذه الآليات الإنتاجية الضخمة، يجد ـ رغم ذلك ـ طريقه إلى رؤية النور؛ هذا له قيمة هائلة.
صحيحٌ أنّ السؤال يُطرح حول مدى قدرة هذه الأفلام على المطالبة بوصف "فيلم ترفيهي" أم لا. لكنْ، في نظري، مهمّ أنّك حين تتوجّه إلى السينما، يُمكنك أيضاً مدّ الوصل مع أفلام كهذه. هذا كلّ شيء. حتّى لو كان جمهور هذه الأفلام، بطبيعته، محدوداً، فإنّها تُمثّل شكلاً سينمائياً راسخاً.
ما يهمّني محاولة التركيز أكثر على العمل على هذا النوع من المشاريع، التي تمنح أهمية قصوى للعمق السينمائي، بدلاً من الأولوية المعطاة لحجم النجاح، أو نطاق الاستقبال.