أن تصبح كرة القدم كابوساً

17 ديسمبر 2022
(ليوناردو باتريزي/Getty)
+ الخط -

لأعوام متأخرة من عمري، ظننت أنّ تسجيل ذلك الهدف بالرأس، في مباراة ودّية ضدّ فريق صغير من تولوز الفرنسية سيجعلني أشهر لاعبٍ في مدينتي الصغيرة. ليس الحلم جميلاً دائماً، لكنّه محزن وعسير. إذ لم تكن كرة القدم مجرّد هواية بالنسبة إليّ، كما الحاصل منذ زمن. كانت أشبه بصلاةٍ يوميّة، في نهاية كلّ مساء بارد، إمّا عبر تدريب مرهق مع فريق المدينة، أو باللعب مع ديناصورات الطفولة، ممن امتلكوا لمسة سحريّة أفضل منّي، لكنّهم فضّلوا الموت في البحر، بدلاً من الجري وراء كرة القدم التي جمعتنا معاً.

ليس الموت ما يثير فيّ الجرح والخيبة والسؤال، بل الأحلام التي نظلّ نُطاردها حتّى حتفها. تبقى باستمرار هاربة ومنفلتة منّا، كما يقول روني شار. من كان يتصوّر، في طفولتنا، أنْ تُصبح كرة القدم كابوساً في الحي؟ كرة صغيرة تتدحرج من أعلى جبل صغير، وتسقط في وادي أم الربيع، فيُلقي صبي الجنوب محمد بنفسه كي لا نفقد الكرة، ما تسبّب بغرقٍ مهول، جعله في غضونٍ دقائق جثّة هامدة. ليست اللعبة حلماً ولا متعة، بل جُرحاً غائراً في جسدي.

لا أتذكّر من طفولتي سوى الأصابع الزرقاء في قدميّ المُنتفخة من شدّة البرد. ضربٌ ورفسٌ بين الأرجل والأجساد الضخمة يجعلاني، باستمرار، ملقى على الأرض. لكنْ، لشدّة عشقي للكرة، قبل الحادث، انتسبتُ باكراً، رفقة أصدقائي، إلى فرقة المدينة. لاحقاً، سيتكشّف لنا أنّ السبب ليس كرة القدم نفسها، بل الصبايا الجميلات اللواتي انتسبن هنّ أيضاً إلى الفريق نفسه. بل إن الخروج والانعتاق من المدينة الصغيرة سببان أكبر للابتعاد، والحلول في الدار البيضاء التي كنّا نتخيّلها حلماً بعيد المنال.

لحظة الوصول، كنّا نستغرق وقتاً طويلاً لنتعرّف إلى الملعب. لم نرَ ملعباً بذلك الحجم، وتلك الكرات الجميلة الملساء الناعمة التي تنزلق بين الأصابع، محدثةً فيّ رعشة أشعر بها إلى اليوم. صفّ طويلٌ من المشجّعين والمشجّعات جعلني أصبح ممثلاً على الملعب، وأستعرض كافة مؤهّلاتي البدنية ولوحاتي الفنية، في تسجيل الهدف، والقيام بكليشيهات بصريّة، أجذب بها الناس. لاحقاً، يصبح الملعب مجرّد مسرحٍ بالنسبة إليّ. لم تعُد تهمّني كرة القدم إلّا باعتبارها تجلب لي الشهرة في المدينة.

في المساءات الجريحة في المدينة الصغيرة، كنّا نتسلّى بعدد الأهداف التي سجّلناها، وبالجميلات اللواتي بادلننا الحبّ من بعيد. في سنّ المُراهقة، أخذت كرة القدم تتراجع شيئاً فشيئاً من حياتي. لم تعُد لديّ قدرة على مُتابعة الشأن الرياضي، إلى درجةٍ جعلتني أخرج من فريق الاتحاد. لم أعد أتابع شؤون الرياضة لا في المدينة ولا في خارجها. السبب ليس عجزاً، بل حبّ السينما، وكتابة رسائل الغرام، ودخول عالم المسرح، هذه كلّها أبعدتني عن الملعب.

أوّل مرّة دخلَتْ السينما إلى حياتي كانت من شبّاك الصالة، بعد تسلّلي بهدوء منه، وقلبي يخفق تحت أشعة ضوء الشاشة، وأشباح المُتفرّجين الذين تبدت لي ظلالهم البعيدة كأنّها أشباح ترقص في سيرك من فراغ. المُضحك أنّ الفيلم كان منتهياً. هذا قبل أنْ تمُرّ أسابع قليلة على إغلاق صالة السينما الوحيدة في تلك المدينة التي كان يمكنها تغيير أحلام جيلٍ بكامله، وتنقذه من الموت في قوارب الموت، بحثاً عن مُستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم.

حضن الجدّة أجمل بعد عودتها، بشكل موسمي، من إيطاليا، مع آلاف شرائط الأفلام العالمية. بعد أعوام، بدا لي أنّ جدّتي أنقذتني بالسينما من الانتحار في البحر. شكّلت تلك اللحظة منعطفاً كبيراً في حياتي. يوماً بعد يوم، أصبح عشقي للمُشاهدة السينمائية يزداد، كالتعلّق بالمجهول. مع كلّ عودةٍ لجديّ من إيطاليا يُقدّمان لي هدايا، تكون أفلاماً وملصقات كبيرة لسيلفستر ستالون و"تايتانيك" ومارلين مونرو وبروس لي.

موقف
التحديثات الحية

في ذلك البيت الصغير، المغلق ليلاً ونهاراً، بدأت أحلامي تتشكّل. اخترقت كافّة أنحاء جسدي لتُصبح في مُراهقتي فعلاً يومياً. مع توالي الأعوام، أصبحت السينما مرضاً يستبدّ بي. يُخبر الطبيب جدّتي بأنّ حفيدها "مُصابٌ بإفراطٍ في الخيال"، بسبب الأفلام التي يُشاهدها يومياً، فتجعله ينفصل عن الواقع، ويُصاب بالدهشة والخوف في الليل، ويُفكّر في أشياء، جميلة أو سيئة، يُمكن أنْ تحدث في واقعه وحياته. أصبح الناس، بالنسبة إليّ، شخصيات سينمائية، ألهو بها بين كرّاساتي وصحف عمّي. شخصيات أرسمها بألوانٍ، يغلب عليها الأسود، وأخرى أرمّمها بالكرتون، لتكون شخصياتي الأثيرة في فيلمٍ سينمائي مُتخيّل.

في تلك المرحلة، أصبحت علاقتي بالدراسة والقراءة جدّية بسبب السينما، بعد اتّضاح حلمي بالإخراج السينمائي. أنزوي في حديقة البلدية، وأقرأ الشعر بشغف، وأتأمّل الصُوَر تسقط مع قطرات المطر على جذع شجرة. أنظر بعيداً في قطراتها المُضيئة، تنتحر على أغصانٍ خضراء. أقرأ مسرحياتٍ عربيّة وعالمية، وأدقّق النظر في السيناريوهات، وأتخيّل المَشاهد تتشكّل أمامي بشكلٍ مُذهلٍ. شيئاً فشيئاً، أصبحتُ أعرف أنّ بين الواقع والخيال شعرة صغيرة، تُؤدّي إلى نجاح العمل السينمائي، وتجعله أكثر تجذّراً في الواقع، ومُنفصلاً عنه في آنٍ واحد.

في هذه المرحلة، لم تعُد لديّ أيّ علاقةٍ بكرة القدم. لم أعُد أستسيغ مُشاهدتها. بات أصدقائي يجدونني أقرأ كتاباً، أو أجلس أمام حاسوبٍ، أشاهد عبره فيلماً في مقهى غاصّ بالمُشاهدين، في مقابلاتٍ عالمية. شخصياً، لا أتابع المونديال، ولا المباريات الودية والوطنية. لا أستطيع تمضية دقيقة واحدة أمام تلفاز أو شاشةٍ لا يكون مضمونها فيلمٌ سينمائي أو شريط تلفزيوني، أو على الأقلّ برنامج فني، حتّى لو كان هزيلاً، إذ يكون لي مادّة تصلح للكتابة. كرة القدم غير مُحبّبة لي الآن، ولا أتابعها. لكنّ تسجيل الأهداف سابقاً، واللذّة التي كُنت أشعر بها في الطفولة، وأنا وسط الملعب، مقابل فتاةٍ أجنبية تنظر إليّ وتبتسم، تجعلني أقول الآن: نعم، هناك في اللعبة ما يستحق الانتباه.

المساهمون