استمع إلى الملخص
- **فيلم "أنواع اللطف"**: يتكون من ثلاث قصص مستقلة تعكس عبثية الحياة وتنوع الشخصيات، حيث تتناول الأولى محاولة الخلاص من سادية المدير، والثانية حزن الضابط على فقدان زوجته، والثالثة بحث عن قائد روحي.
- **التعاون الفني والتمثيل**: كتب السيناريو بالتعاون مع إفتيميس فيليبو، وأداء متميز من جيسي بلامنس، ويليم دافو، وإيما ستون، مما يعكس نقداً للحياة الحديثة وحاجة الإنسان إلى مصدر روحي.
أوجد المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس (1973) تيّاراً سينمائياً متفرّداً، اعتمد فيه على غرابة الشخصيات وتطرّفها وتنوّعها، مع اختلاف المواضيع وعبثيتها وعدم تقليديتها، وجعلها صادمة، فتُوقِف المتلقّي أمام أسئلة متشائمة وصعبة ومخيفة، وفي الوقت نفسه، تدفعه إلى الهرب من واقعه، باتجاه فضاءات سوريالية، تقترب من الأحلام والكوابيس والهلاوس المتداخلة. كأنّه يكتب مشاهد أفلامه انطلاقاً مما يراه في هذيانه، أي أنّه يخلق واقعاً موازياً لما نعيشه حالياً. كأنّه بذلك يُلامس رؤى ونظريات المخرج والمنظّر السينمائي الإيطالي بيار باولو بازوليني (1922 ـ 1975)، ويتقاطع معه، حتى في آخر أفلامه، "سالو" (1975)، الذي عكس فكرة "ما بعد السادية"، أو "أشكال الوهم ومستوياته".
لكنّ هذا التقاطع لا يخلق تأثّراً ولا تقليداً، بل محاكاة الفكرة في نواحٍ منها، وهذا معطى أساسي يتجلّى في أكثر من مظهر، في "أنواع اللطف" (2024)، جديد لانثيموس، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
الصفات والمرتكزات تلك لا تعكس النتائج النقدية في "أنواع اللطف" فقط، بل تمتدّ إلى تجارب أخرى للانثيموس، منها "مخلوقات مسكينة" (2023)، وقبله "جراد البحر"(2015) و"ناب الكلب" (2009)، وكلّها تعكس شخصية المخرج، وتثبّت تحرّره من القوالب القديمة والسينما المتعارف عليها. والمُشاهد اعتاد سينماه الجديدة، ولم يعد يجدها غريبة، فإذا بـ"أنواع اللطف" يؤكّد إصرار لانثيموس على توجّهه السينمائي، وإيمانه القوي بما يفعله. حتّى إنّ روح التجديد لم تنعكس في مواضيع الفيلم، بل تعدّته إلى الشكل، ليكون ثلاثة أفلام في واحدٍ، بعد تقسيمه إلى ثلاث قصص، في كلّ منها موضوعٌ وشخصيات مركّبة ومختلفة ومستقلّة، يؤديها الممثلون أنفسهم.
الأولى عن محاولة الموظّف روبرت (جيسي بلامنس) الخلاص من سادية مدير الشركة ريموند (ويليم دافو)، الذي أهداه منزلاً جميلاً وسيارة فارهة ووظيفة مرموقة، مقابل أن يحقّق له سلوكيات متطرّفة، كحثّه على الاصطدام بسيارة شخص آخر (يورغوس سْتِفاناكوس) وقتله، بعلم الأخير. لكنّه يرفض، فيُطرد من العمل ويُصبح من دون دخل، علماً أنّه أخبر زوجته سارة (هونغ تشاو) بأنّ زواجه مُدبّر من ريموند، وبأنّه هو من أوصى الأطباء بإخبارها أن لديها مشاكل إنجاب. رغم هذا، يجد نفسه مُقيّداً مرة أخرى، ومُحقّقاً طقوس سيده الثري من دون أن يدري. كأنّه يعيش في دوّامة، كمُسيَّر من قوى خفية.
أمّا الثانية، فتعكس حزن الضابط دانيال (بلامنس) على فقدانه زوجته ليز (إيما ستون) في البحر. يُعثر عليها لاحقاً، وعندما تعود بعد غياب، يعتقد أنّها امرأة أخرى، لكن بجسد ليز، فأصبحت مواقفه متطرّفة، كتحريضها على قطع إصبعها لأكله، أو أخذ كبدها، والدخول في دوّامة هذيان أثّرت على حياته ومهنته في الشرطة.
الثالثة ترتكز على بحثٍ عن قائد روحي يُمكن أن يقود أسيراً، ويحميه من التلوث. والقائد، أو الموجّه (دافو)، يستعين بمعطيات للعثور على المرأة المنتظرة، فيُرسل إيميلي (ستون) مع أندرو (بلامنس) للبحث عنها، انطلاقاً من سمات مميّزة، وقياسات جسدية معيّنة، وقوى روحية تنعكس في إحياء الموتى. هكذا ينتقل البحث من مكان الى آخر، للعثور عليها.
قصص "أنواع اللطف" مختلفة وعصبيّة وعبثيّة في جوانب كثيرة، ويندر حدوثها في العالم الذي نعيشه. لكن لانثيموس يلتقطها ويوظّفها بذكاء، علماً أنّه كاتب السيناريو مع شريكه وابن بلده إفتيميس فيليبو، المتعاون معه في سبعة أفلام، أي أنّه شريك الرؤية، واعتادا هذه الشراكة والفلسفة السينمائية المغايرة. لذا، هناك تقاطع فكري وانسجام فني بينهما، والنتيجة الإيجابية واضحةٌ في هذا الفيلم، وفي غيره.
"أنواع اللطف" صرخةٌ صاخبة ضد الحياة، أوجد لانثيموس حياة موازية لها، بمشاكل مختلفة، ومنطلقات عبثية، واتجاهات منفصلة عمّا ألفه الناس، وبالتالي خرج من الدائرة التي رسمتها السينما المتداولة. كأنّه يسخر من كلّ شيء، عبر ممثّلين عكسوا شخصيات مركّبة ومنفلتة، خبروا جيّداً أبعادها النفسية، وانخرطوا في موضوع الفيلم وأبعاده. ولعلّ أهمهم وأكثرهم حضوراً جيسي بلامنس، الذي أدّى ثلاث شخصيات صعبة ومعقّدة ومُتعِبة، لكنّه استطاع الذوبان فيها باقتدار، ثمّ ويليم دافو، الذي أثبت جدارته، مع إيما ستون وآخرين، الذين انسجامهم معاً واضحٌ.
في "أنواع اللطف"، أثبت يورغوس لانثيموس أنّه مخرج مغامر وجريء. اختار موضوعه بعناية فائقة مُستنداً إلى منطلقاتِ علم النفس، ليتناول سلوكاً بشرياً، والمنعكس باللّذة بمفهومها المطلق، وبحاجة الإنسان إلى مصدر روحي أو قوة بشرية تُسيّره وتوجّهه، والإحاطة بمنطلقات الهذيان بجوانبه النادرة. كما أنّه أثبت أنّ علم النفس مجرّد احتمالات، لا يُمكن أن تقود إلى اليقين. ولا أدلّ من ذلك غير تشخيص الطبيب النفسي مرض دنيال قائلاً عنه إنّه لا يُشكّل خطراً، لكنّه ارتكب جريمة مروّعة.
"أنواع اللطف" نقدٌ للحياة الحديثة بكلّ مكوّناتها الظاهرة والمخفيّة.