"ألوان الشر: أحمر"... سردٌ يخالف اللمسة النضالية لفايدا

04 اغسطس 2024
"ألوان الشر: أحمر": نمط حكي بصري ـ سمعي خاص بـ"نتفليكس" (الملف الصحافي)
+ الخط -

ما مصير الشابّة التي تُلقي نفسها في حضن أول شاب تصادفه في أي مكان؟ مشكوكٌ بأنّ تتجاوز سنّ الـ20 بسلام. إثباتٌ يقدّمه "ألوان الشر: أحمر" (2024، نتفليكس) للبولندي أدريان بانِك، الذي يطبّق التعاليم المكرّسة لمؤسّسة الصناعة السينمائية. بذلك، يخرج عن التقاليد الجمالية لسينما أوروبا الشرقية.

حصل اللقاء في "نادي حوض السفن"، مكان لقاء الشبيبة. لاسم المكان صدى في تاريخ بولندا، ومدينة "غدانسك" على بحر البلطيق، حيث صَوّر أندره فايدا "الرجل الحديدي" (1981). يعشق الكهول بنات الأغنياء الغلاميّات، اللواتي لا يأكلن خبزاً كثيراً، فتبقى قاماتهنّ مستقيمة كمسطرة، وربما تصير هذه الفتنة مصيبة. ما أخطر المجرمين المخصيّين.
(*) ماذا نسمي الزائرة الدائمة لحانة ليلية؟
ـ عاهرة.
(*) أيبرّر هذا قتلها؟
ـ كلا.
لا تهتمّ الشرطة بمهن البشر، بل بحماية حياتهم. لذا، أفلام قتل النساء بالتسلسل أكثر تشويقاً. الشابّة تحتاط من الغرباء، فيُصيبها أذى من أقرب الناس. القتلُ جريمة أكثر إثارة للاهتمام. يزيد الدم المسفوح من نسبة المتابعة في السياسة والدراما. صارت بولندا أكثر يمينية عام 2023. من دون سلطة الدولة الحديثة، تعود النساء إلى زمن العبودية الأبشع.
كما في كلّ فيلم بوليسي، تبدأ الأحداث من النهاية، ممّا بعد الجريمة المروّعة، التي تبرّر الاستماتة في التحقيق. تتوالد قصص موجزة، بعضها يتضمن بعضها الآخر كطبقات البصل. خلف كلّ قشرة ـ قصة، قشرة ـ قصة أخرى. يُمَكّن هذا التعقيد من تمديد التشويق، الذي تُحتَمل خفته. يتزامن تحقيق علمي وعنف مافيوزي منفلت. المحقّق البوليسي شيرلوك هولمز عالمٌ كيميائي يملك جواباً علمياً لكلّ واقعة. لا مكان للخيال في المحاكم.

تجري عملية تشريح إكلينيكي لبقايا الجريمة. لتغيير النبرة والموضوع، تقحم معلومات صغيرة عن حياة المحقّق، للتخفيف من التركيز على الجريمة. ثم يُشعَّب البحث لتضليل المشاهد وتشويقه. تُكتشف أدلة، ويُتحقَّق منها، فربما تُحرَّف جريمةٌ لطمس معالمها وتضليل المحقّقين. في فيلم بوليسي، ممنوع اكتشاف السرّ والمجرم الحقيقي في الساعة الأولى. يُفتَعل توتّر مع أشخاص لا صلة لهم بالجريمة، لدفعهم إلى تقديم معطيات. تبدأ المطاردات بعد ساعة، فيشتدّ التشويق في إطار خصائص النوع الفيلمي.

ينتهي الفيلم بجائزة كلّ محقّق ماهر: كشف دليل قاطع، يلقي المجرم في السجن إلى الأبد. تحقّقت هذه الخطاطة في "ألوان الشرّ". هذه معايير يعتمدها منتجون كبار ومنصّات بثّ تستهدف ملايين المُشاهدين.

تعتمد "نتفليكس" نمط حكي بصري ـ سمعي. ليس صدفة أنّ لديها 282 مليون مشترك في منتصف 2024، أكثر من نصفهم نساء. لكلّ مشترك أربع شاشات. لهؤلاء، قدّم أدريان بانِك تحقيقاً إخبارياً بصرياً ـ سمعياً شديد التواصل، يستجيب لمعايير إيقاع السينما الأميركية. سردٌ بأسلوب خفيف يخالف اللمسة النضالية لمؤسّس السينما البولندية، فايدا.
هذا يطرح سؤالاً: ما الذي يحصل لسينما بلدٍ، حين تحتضن "نتفليكس" مخرجيه وتموّلهم؟ في الموضوع، تصير الأفلامُ جرائمَ وتحقيقات. في الأسلوب، يصير سردُ حكاية خطية مشوقة، سريعة الإيقاع، ضرورةً فنية. في زمن العولمة، تتشابه المجتمعات، فتتشابه حكايات الجرائم ومناهج التحقيق وتتعولم. كيف يحتفظ المخرج الفنان بفرادة حكايته وإيقاعه وأسلوبه؟ هذا تحدٍّ.

يبحث المبدعون عن التمرّد على التقاليد المُكرّسة، لإبراز بصمتهم الفنية، ويحتاجون إلى الاشتغال وفق معايير الـestablishment، كي يكسبوا المال والشرعية الجماهيرية.
بهدف نقل نسب الفيلم من كاتب السيناريو إلى المخرج، تساءل أندره بازان: كيف يعكس أسلوب الإخراج وبنيته وجهة نظر المخرج؟ مع مئات ملايين دولارات "نتفليكس"، يصير السؤال: كيف يعكس أسلوب الإخراج وبنيته وجهة نظر المنتج؟

حرص المخرجون البولنديون طويلاً على أسلوبهم. ما الأسلوب غير الـ"نتفليكسي" في السينما البولندية؟ يمثل EO، فيلمُ (2022) رحلة الحمار الساخر ليرجي سْكوليموفسكي مَثَلاً جيداً. عُرض الفيلم في مهرجانات كثيرة، وكتب عنه نقّاد يناسب (الفيلم) ذوقهم الفني، وهم خصوم أوليغارشية الذوق الـ"نتفليكسي". يرصد الحمارُ الحماقات البشرية التي تُرتكب بثقة. عرف الحمار السيرك، وهذا فضاء يتعايش فيه خليط بشر وحيوانات. للحمار مكانة كبيرة في الدين، وعريقة في الأدب. تجسّس الحمار الماسخ لوكيوس أبوليوس (170 م)، على البشر. رصد الحمار حماقات سيرتكبها راكبه المرافق لدون كيخوته. الحمار رمز البراءة، مثل "أبله" دوستويفسكي الذي يُطربه نهيق الحمار. بحسب حديث نبوي، ينهق الحمار عندما يرى شيطاناً.

حمار سْكوليموفسكي (1938)، وسيلة المخرج المعاصر لأندره فايدا (1926 ـ 2016)، للتأمّل بسخرية وعبث. تأمّل في لقطات طويلة، تتفلسف ولا تحكي. لقطات لا يُحتَمل ثقلها. لم يجذب تصوير سْكوليموفسكي الحمار الخام، من دون مؤثّرات بصرية، مشاهِدات ذوات ذوق معولم. EO ليس فيلماً مشتبكاً مع العولمة، كالتحقيق البوليسي المشوّق عن الشرّ الأحمر في الشفتين.

في هذا التعارض الأسلوبي ـ التجاري، ما الذي سيحصل لسينما بلدٍ حين تحتضن "نتفليكس" مخرجيه وتموّلهم؟ تفقد غالباً إيقاعها الريفي الفلاحي التأمّلي، في صراع نهج سينما المؤلّف ونهج سينما الجماهير. مهما كان التمويل شرساً، يُمكن للمخرج المتمكّن تمرير أسلوبه.

لتجنّب التعميم: ما مدى قدرة أولئك المخرجين، عشّاق الاستقلالية الفنية، على تبني إيقاع السرد الـ"نتفليكسيّ"، وفي الوقت نفسه المحافظة على أسلوبهم ونظرتهم للسينماتوغرافيا؟ الجواب انطلاقاً من "ألوان الشرّ": ابتكر أدريان بانِك المكان بواسطة الكاميرا.

تعكس جمالية حركة الممثلين معنى اللقطة، ومؤدّاها السوسيولوجي. جرى التصوير في أمكنة ذات هندسة راقية. يجعل الديكور البورجوازي الدوافع الاقتصادية للجريمة غير مبرّرة. يلجأ المحقّق إلى محلّل نفسي، يكشف له أنّ المختلّين عقلياً لا ينتحرون. فقط العقلاء ينتحرون. يملك المخرج البولندي مهارة استخدام المكان دلالياً، لتشخيص وضع وكيل نيابة يعتمد على شرطة مختَرَقة. تجادل موظّفان عن منهج العمل. أحدهما يريد كشف الحقيقة، والآخر يريد تنفيذ أمر رئيسه. في اللقطة الموالية، يمكث الموظف الأول في مكانه تائهاً، بينما يصعد الثاني السلم الرخامي بثقة. هناك فساد مؤسّسي يغطي جرائم شخصية. المصلحة متبادلة.

المساهمون