ألبير كامو في مهرجان جرش

08 يوليو 2024
من دورة سابقة لمهرجان جرش (خليل مزرعاوي/ فرانس برس)
+ الخط -

يُسعفنا الأدب في الإضاءة على الواقع وفهم ما استعصى من أفعال أفراده. تقدّم رواية "الغريب" (1942)، لمؤلفها ألبير كامو (1913 - 1960)، ما يمكن اعتباره مقاربة أدبية لفهم مجريات نتابعها في أيامنا هذه، ومنها آراء ومقولات متعالية ورسولية، جاهزة وقطعية، لكثير من الناس في المقتلة المفتوحة في جوارنا الفلسطيني في قطاع غزة؛ إذ قلما نقرأ تصريحات لفنان عربي أو مسؤول عن مهرجانات فنية من دون اللجوء إلى الذخيرة اللغوية الموحّدة للرد على معارضي إقامة هذه المهرجانات. ومفاد دفوع هؤلاء أن على الحياة ألا تتوقف في أي حال، وأننا ندعم صمود الغزّيين بالانحياز إلى الحياة، وليس إلى ثقافة الموت، وأن صناعة الفرح لا تتناقض مع روح المقاومة بل تتكامل معها، وعليه، فإن مهرجاناتنا ستواصل أداء رسالتها. وأنت لا تعرف ما هي الرسالة السامية التي يمكن أن تتمثّل في مطرب "رُبع كم"، بلا صوت ولا موسيقى، وبلا موهبة حقيقية في التمثيل، وهو الحقل الذي جاء منه أصلاً، إلا إذا كانت تكريساً للعبث والاضطهاد الطبقي للجمهور المستهدف الذي يرى المطرب لا سواه يدخل المسرح بسيارته الفارهة، وهو نصف عار، ومحاطاً بفتيات جميلات يضعن أقنعة على وجوههن، ويدرن حول المطرب وهن يرفعن أيديهن إلى السماء قبل أن يبدأن بالرقص على إيقاع بلا هوية موسيقية ولا أي معنى.
يتلقى مورسو، بطل رواية "الغريب" لكامو، برقية تفيد بأن أمه توفيت في مأوى المسنين في مكان يبعد نحو ثمانين كيلومتراً عن الجزائر العاصمة (وهو زمن الاستعمار الفرنسي). وبعد ذهابه ومشاركته "الباردة" في جنازة والدته، يفعل بطل الرواية كل ما لا يخطر على بال أحد من المحيطين به، فهو لم يبك، بل ورفض إلقاء نظرة أخيرة على والدته، وفور عودته إلى المدينة، يغرق في النوم، ثم يذهب للسباحة برفقة صديقته، وبعد ذلك يصطحبها إلى السينما لمشاهدة فيلم كوميدي، قبل أن يعود إلى البيت وينام معها... إلخ، إلخ، إلخ.
في فهم تصرفات مورسو أنه لا مبالٍ، فلا شيء يتغيّر بموت والدته، ذلك أن وفاتها ليست غلطته، كما كان يود أن يقول. وفي تحليلات أخرى، فإن تصرفاته تكشف عن زيف طقوس الحزن عند البشر، القائمة على الإعلان الفج عن نفسها، بينما الحزن الحقيقي قد يتقنّع بالإنكار، ومن ثم فإنه يحتاج زمناً طويلاً لينفجر، سواء على شكل بكاء أو حالة إنسراق من الحياة نفسها أو القيام بأفعال تخريبية، لكن مورسو، في الحالتين، احتفظ لنفسه بحق عدم التورط في الطقوس ولا في الحزن ولا حتى في إظهار التعاطف.
ما يفعله المدافعون عن الفرح، بدعوتهم الرسولية المتعالية والزائفة، يشبه فعلياً ما فعله مورسو، فما شأننا نحن بما يحدث في غزّة، وإذا كانت لنا صلة بحكم الجوار أو اللغة على الاقل، فإن هذا لا يمنعنا من مواصلة حياتنا، كأن أحداً طالبهم بغير ذلك!، لأن من شأن هذا نفي المقولات الاستشراقية، المتعجرفة، عنا بأننا أبناء ثقافة الموت لا الحياة، ولأننا لسنا كذلك، فإننا بهذا نسند غزة باعتبارها جزءاً منا، من ثقافة الحياة، كونَها تقاوم الموت على طريقتها، بينما نقاومه نحن على طريقتنا، والحال هذه، فإننا نتكامل معها ونحن نلقي الأحزان وراء ظهورنا.
هذا الكلام، وإنّ ليس بحرفيّته، سمعناه وقرأناه كثيراً في تبرير إقامة المهرجانات العربية هذا الصيف، ومن ردده لم يكن مضطراً لبناء كل تلك المرافعات الطويلة لإقناع نفسه بأنه "آخر"، لا يُعنى بما يحدث في جواره، وهو بشع وغير مسبوق، ذلك لأنه قتل، وهو ليس قتلاً فقط بل مجزرة مفتوحة، وحرب إبادة حقيقية تطاول أكثر من مليوني إنسان، وهؤلاء لا يعنون بأغنية في مهرجان يقول مغنيها إنها تساندهم وتمثل توقهم للحياة وحبهم لها، بل يعنون ويبحثون عمّا يقيهم القتل والموت جوعاً، ويحمي أطفالهم ويوفر سقفاً يقيهم حرّ الصيف الذي يدعو أصحابنا إلى تحويله مهرجانات فرح متنقلة ولا تنتهي.
نقول هذا ونحن نحمد لإدارة مهرجان جرش (الأردن) أنها حاولت أن تقبض على العصا من المنتصف، أو تحايلت لتقوم بذلك بأن ألغت على الأقل حفلات نجوم الغناء العرب، بعضها وليس كلها، فهي على الأقل حاولت أو سَعَت.

المساهمون