"أغورا" لعلاء الدين سليم: غرائبيّةٌ سينمائية تفضح واقعاً

02 سبتمبر 2024
علاء الدين سليم في "لوكارنو" مع فيلمه الروائي الثالث "أغورا" (أليسّاندرو ليفاتي/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **العودة إلى الماضي لمواجهة الحاضر**: فيلم "أغورا" (2024) لعلاء الدين سليم يعرض قصة ثلاث شخصيات تعود بعد موتها إلى مدينة ساحلية لتذكير أهلها بماضيهم المؤلم وزعزعة استقرارهم.

- **الرمزية والغرائبية في السرد**: يعتمد الفيلم على أسلوب يجمع بين الواقعية والغرائبية، حيث تأتي الحكاية عبر أحلام غراب أسود وكلب أزرق، مما يضفي طابعاً غامضاً على الأحداث ويعكس مخاوف السلطة.

- **التحقيق في ماضي الشخصيات**: المحقق عمر يحقق في تقارير حول الجثث الهلامية، ويعيد صياغة قصص موت الشخصيات، مما يعكس واقعاً قاسياً وخراباً بيئياً، ويستخدم الغرائبية لفضح فساد السلطات.

 

بأسلوبه الخاص نفسه، الذي يجمع الواقعية بالغرائبية، يمضي التونسي علاء الدين سليم (1982) في كتابة نص الجديد "أغورا" (2024)، الذاهب فيه ـ أبعد من سابقيه، "آخر واحد فينا" (2016) و"طلامس" (2019) ـ إلى معاينة الواقع التونسي ومشكلاته، عبر حكاية، أبطالها ثلاث شخصيات، ترجع بعد موتها إلى المكان الأول، الذي كُتبت نهاية حياتها فيه: مدينة ساحلية بعيدة عن المركز، يريد أهلها المضي في حياتهم البائسة كما هي، من دون النظر إلى الوراء، إلى الماضي القريب، الذي يذكّرهم أنّ العائدين ضحايا نظامٍ سياسي، يولّد لسوئه معضلات اقتصادية ومجتمعية، ويُلحق ضرراً في كلّ مرفق تطاوله سلطته. نظامٌ سكتوا عنه، وقَبلوه. عودة الغائبين (امرأة ورجلان) تؤشّر رمزياً إلى دورة زمان لا أحد قادراً على إيقاف حركتها.

على مستوى الحكاية، يُغيّر سليم من معاني حركة شخصياته. في فيلميه السابقين، أبطاله يتوارون عن الأنظار. يهربون إلى أمكنة بعيدة، ليتجنّبوا قسوة واقع يعيشونه. الهامش لهم خلاص. لكنّهم في "أغورا" يتحرّكون عكس ذلك الاتجاه. يعودون من الماضي إلى الحاضر، من المجاهيل النائية نحو المكان الأول، وطنهم. كأنّهم بالعودة يريدون إيقاظ ضمائر الذين سبّبوا موتهم ظلماً، أو لزعزعزة استقرارهم الكاذب.

الحكاية لا تأتي في سياق السرد الدرامي عبر الغائبين، العائدين للتوّ كأشباح مترجرجة بين حياة وموت، بل عبر أحلامِ غرابٍ أسود وكلب فاقع الزرقة، يغلّف وجوديهما طقس مناخي غرائبي معتم. الحوارات التي تراودهم في مناماتهم تؤسّس مشهد المدينة، وما ينتظرها من كوارث.

وصول خبر رؤية امرأة تخرج من البحر، مزرقّة الجلد ومنتفخة الوجه، يتسرّب الماء من كلّ جسدها، مع خبر آخر عن رؤية رجل مُلفّح بعباءة رثّة، يسيل الدم من جسده وهو يطرق باب بيت في زقاق فقير، يدفعان رجل الشرطة فتحي (ناجي قنواتي) إلى التحرّك سريعاً، ومنع انتشار الخبر. لإخفاء الأجساد الآتية من المجهول، يطلب الشرطي من طبيب المدينة أمين (بلال سلاطية) حفظها في ثلاجات الموتى. من كوّة نافذة غرفة حفظ الجثث، يظهر رجلٌ ثالث، يغطّي التراب جسمه، يجلس إلى جانب المرأة الغريقة والرجل النازف دماً.

ثلاثة أجساد هلامية التكوين، توقظ هواجس السلطة ومخاوفها. من وجودها المستَفِزّ، يتقرّب سليم في منجزه السينمائي (كتابة السيناريو والتوليف له أيضاً) من مبتغاه في عرض حال بلدٍ ساكت على خراب مريع يحلّ به، ولا أفق للخلاص منه. حكاية كلّ قادمٍ من الماضي لها صلة بممارسات سلطة وفساد أنظمة تلحق ضرراً ودماراً بالإنسان والبيئة. سيول من القاذورات تصبّ في مياه البحر، وكلاب سائبة لا ضير منها، تلقى حتفها مرضاة لسلطات دينية، تتحالف مع السلطة السياسية لمنع اضطرابات عامة متوقّعة جرّاء عودة الغائبين، الذين تصاحب عودتهم مظاهر غريبة: فساد زرع، وموت أسماك.

الخراب البيئي مريع. تفاصيله، المتأتية من مشاهد فاضحة لإهمال سلطوي ومؤسساتي متعمّد، توشي بخراب حاصل فيها. لقوّة دلالاتها، يُمنح، في الدورة الـ77 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2024) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي" جائزة "باردو فيردي"، الخاصة بأفلامٍ تعالج قضايا البيئة بفعالية.

 

 

الخوف من تفاقم تذمّر الناس من وجود الموتى بينهم، وإليهم ينسبون ما يحلّ بأرزاقهم من فساد، ومطالبتهم السلطة بالتخلّص منهم ومن شرورهم، يدفعان أجهزة الشرطة في تونس العاصمة إلى تهدئة الأمور، وإعادة الوضع كما كان عليه من قبل. تُرسل المحقّق عمر (مجد مستورة)، غريب الأطوار، من القسم 19 سيئ الصيت، إلى المدينة. يشرع التحقيق بنفسه في صحة التقارير الواصلة إلى المركز. بحثه عن ماضي الحاضرين، واليوم جثثٌ هلامية التكوين، يُعيد صوغ قصّة موت كلّ واحد منهم. المرأة، فائزة، ماتت غرقاً جرّاء شجار يقع بين ركاب قارب، يقلّها مع مهاجرين تونسيين إلى حلم بلوغ الطرف الآخر من المتوسّط. الرجل النازف، مبروك، راعي أغنام يقتله الإرهابيون، وتتستّر السلطات عن كشف حقيقة ما جرى له. الرجل المُغبر، عامل في مقالع صخور، طمرت انجرافاتها الحادة جسده، وتكتّم الجميع عن أسباب الحادثة. موت تراجيدي وخراب بيئي له صلة بواقع قاس، لم يخطر على بال السلطات أنْ يعاد نبش أسبابه ثانية.

بحث سليم في تفاصيل المشهد الحياتي للمدينة يدفع إلى التفكير في المسوغات الجمالية والأسلوبية، التي تشجّعه على الإيغال في المشاهد الغرائبية الموازية للمشهد الواقعي. في اشتغالاته السينمائية السابقة، كانت للغرائبية وظيفة واضحة: خلق حالة من الالتباس تقارب حالة الالتباس العام، في بلدٍ يهرب المتحسّسون لخرابه وفساده إلى أماكن بعيدة منعزلة، تتحمّل تغليف حياتهم فيها بغرائبية، تحفّز المتفرّج إلى التفكير في معانيها الكامنة، ودلالاتها الفلسفية.

في "أغورا"، المعاني الدلالية لعودة الغائبين تكاد تتّضح بسهولة، لشدة تقاربها مع الواقع، فتغدو المشاهد الغرائبية الطويلة لهذا السبب كأنّها منفصلة عن المسار الدرامي الأوسع. ضعف التشابك بين الغرائبي والواقعي يوزّع "أغورا" بين مساحتين دراميتين: واقعية جيدة الكتابة، معنيّة بفضح السلطات وموبقاتها، وغرائبية تتأتى عبر أحلام غراب وكلب، تُنبئ بما سيحصل من كوارث، من دون كثير فائدة للسيناريو والاشتغال الجمالي، الذي عُرف به سليم، وظلّ كثير منه حاضراً في "أغورا"، رغم ذلك الانقسام المضرّ، لأنّه يعرف جيداً كيف يحيط كلّ مشهدٍ بهالة من التصوير الجميل (أمين المسعدي)، وكيف يحرّك بدقّة ممثّليه، رغم ما يتركه لهم من مساحة تكفي ليعبروا عبرها عن فهمهم للأدوار المُسندة إليهم، وغالباً ما تكون صعبة.

يظهر هذا في الدورين الذين يؤدّيهما مجد مستورة وسنية زرق عيونه (الدكتورة لعيوني)، التي يضفي حضورها في مشاهدها القصيرة مسؤولةً سياسية وأمنية كبيرة، تريد إعادة حال المدينة إلى وضعها السابق بأي ثمن، حيويةً لافتة بقوّة تأثيرها.

المساهمون