يروي "أسماك حمراء" (2022)، للمغربي عبد السلام الكلاعي، حكايات 3 نساء، وبعض تلك الحكايات مُتداخل ببعضها الآخر، فاثنتان منهنّ تلتقيان في مصنع للفواكه، والثالثة شقيقة إحداهنّ.
إنهنّ حياة (جليلة التلمسي) وأمل (فريدة بوعزاوي) وهدى (نسرين الراضي)، والأخيرة، شقيقة أمل، مُصابة بشلل دماغي منذ ولادتها. بداية الحكاية مترافقة وخروج حياة من السجن، بعد 17 عاماً، والتهمة تُعرَف لاحقاً. مباشرةً بعد تناولها طعام الغداء في مطعم شعبي، تذهب إلى شقيقها محمد (أمين الناجي)، العامل في مسلخٍ، يتبيّن لاحقاً أنه سائق سيارة أجرة أيضاً، ليتمكّن من إعالة زوجته وأولاده، الذين لن يظهروا أبداً في المشهد البصري.
بداية عادية، يُكثِّف الكلاعي (كاتب السيناريو مع محمد الميسي) فيها أبرز الظاهر: الشخصية المحورية لها "تاريخٌ"، ينبذها بسببه أهلٌ ومعارف؛ وشخصية أخرى تُضيف، عبر كلام متوتر وغاضب، صُوراً عن بؤس أناسٍ يواجهون مصاعب شتّى في يومياتهم، مع تلميح إلى شيءٍ من ذاك الـ"تاريخ". حياة تحتاج إلى وظيفةٍ، يؤمّنها محمد لها، ومكانٍ تُقيم فيه، فهو غير قادرٍ على استضافتها في منزله. فندقٌ متواضع، يُكتَشف فيه أنّ بطاقة هويتها منتهية الصلاحية منذ 7 أعوام، لكنْ لا بأس بإقامتها ريثما تُسوِّي وضعها. أما الوظيفة، فعاملة في مصنع للفواكه، تلتقي فيه أمل، التي تُقرّر استضافتها في منزلها، وهناك تتعرّف إلى هدى.
أهذا تسرّع في تسيير الأحداث، أمْ أنّ الواقع يقول بإمكانية استضافة غرباء في منزلٍ، من دون معرفة شيءٍ عن الضيف، باستثناء حاجته إلى مكان أفضل؟ أياً تكن الإجابة، فـ"أسماك حمراء"، الذي يفتتح الدورة الـ7 (5 ـ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023) لـ"مهرجان كرامة بيروت لأفلام حقوق الإنسان"، معنيّ بالأهمّ: سرد تفاصيل من يوميات 3 نساء مغربيات، يواجهن أهوالاً متأتية من فقرٍ وظلمٍ وقهرٍ، في اجتماعٍ خاضع لسطوة ذكورية في العلاقات متنوّعة الأشكال. هذا من دون إسرافٍ في خطابيةٍ مملّة، فللرجل مصائب، وسطوته الذكورية تواجَه، أحياناً، برفضٍ صارم من المرأة، وبتهديدها إياه إنْ يُفكّر الاعتداء عليها مجدّداً.
في تدبيرها أحوال عيشها اليومي، تجهد حياة في استعادة ابنٍ، لن يعرفها بسبب سجنها عند بلوغه 6 أشهرٍ فقط. الرواية التي يعرفها تدفعه إلى عدم الاستجابة لها أبداً، وإلى التنصّل منها، قبل أنْ يستمع إليها في مقهى بحريّ، يُغادره غاضباً مما يعتبره كذباً في قصّتها. لكنْ، لا يُشير النص السينمائي إلى أي شيء يُظهر سبب تحوّله من رافضٍ لها إلى قابلٍ بها، وهذا مهمّ درامياً، فاللقاء الصاخب الأخير بين الأم وابنها أيمن (خليل أوبعقا) يوهِم بانقطاعٍ نهائي يريده معها، والتحوّل حاصلٌ في ذاته ووحدته ربما، وهذا كافٍ ومهمّ سينمائياً.
تفاصيل عدّة تكشف شقاءً وقهراً قاسيَين، تعيشهما النساء الـ3 تحديداً: فهدى تحتاج إلى عناية دائمة بسبب شللها، رغم حبّها للحياة، ولحياة نفسها أيضاً، التي ستعينها في لحظاتٍ عدة. وأمل مُتعبةٌ، بسبب مسؤولياتٍ مفروضة عليها بعد وفاة والديها، تتمثّل بعملٍ مُضنٍ، واهتمام بشقيقةٍ معوّقة، ورغبتها جامحةٌ في الخروج من ذلٍ وإهانة، يفرضهما بقاء في بلدٍ غير مكترثٍ بالغالبية الساحقة من ناسه. محمد أيضاً مُتعب من غضب دائم يضجّ بامرأته، وبمتطلبات عيشٍ تفرض عليه ممارسة عملين مُرهِقَين. أيمن يُعاني، فوالدته مسجونةٌ في حياته كلّها، والرواية التي يعرفها مرويةٌ من جهة واحدة، والصدام مع الأم، العائدة بعد غياب 17 عاماً، ثقيلٌ.
هذا لا يعني أنّ عبد السلام الكلاعي (الذي يُتوَقّع حضوره العرض البيروتي لفيلمه هذا) يوازن بين الطرفين في مصائبهما، فسطوة الرجل طاغية، وقوة المرأة، المستَمَدة من ثقتها بنفسها ومن رفضها القاطع خضوعاً "دائماً" للرجل وسلطته، تقول إنّ للمرأة قدرة على التحصّن من بشاعة الرجل، وهوسه بتسلّط وبطشٍ. لكنّ أهمية الحكاية وواقعيّتها غير متساوِيَين مع معاينة درامية يُفترض بها أنْ تكون متكاملة الصُنعة، رغم أنّ "أسماك حمراء" مشغول بمهنيّةٍ مطلوبة. أداء نسرين الراضي غير مُقنع كفاية، وهذا نقيض أداء جليلة التلمسي وفريدة بوعزاوي مثلاً، رغم أنّه (الأداء) غير باهرٍ، بقدر ما يلتزم حِرفةَ اشتغال.
أمّا الموسيقى (الأميركي ريتشارد هورُويتْز)، فيُمكن لمَشاهد/حالات/ملامح عدّة أنْ تتحرّر منها، رغم أنّها غير مزعجةٍ. فالأجمل، في لحظاتٍ متناقضة بين قسوة وسكينة مؤقّتة، ألا تتدخّل الموسيقى في السرد البصري، لأنّ الصمت أقدر على إثارة مشاعر وتبيانها من كلّ مقطوعةٍ موسيقية، إنْ يكن التمثيل بارعاً. خاصةً أنّ لمعظم الممثلين/الممثلات، التلمسي وبوعزاوي والناجي مثلاً، حِرفية إظهار المطلوب من دون كلامٍ أحياناً (تعبير صامت بالوجه والحركة والعينين والجسد)، وبكلامٍ مقتَصد أحياناً أخرى.
فيلمٌ كهذا يُشَاهد، لما فيه من تصويرٍ واقعي لبؤسٍ بشريّ، منبثق من ضغوط اجتماع وبيئات، وأفرادٍ أيضاً، يظنّ بعضهم أنّ له مواقع تتيح له بطشاً وسطوة يُنتجان بؤساً كهذا.