"أسرار محاربي تيراكوتا": تشريح الماضي لفهم الحاضر

14 اغسطس 2024
"أسرار محاربي تيراكوتا": تشكيكٌ بالرواية الرسمية (نتفليكس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **إعادة كتابة التاريخ الصيني**: يعيد وثائقي "أسرار محاربي تيراكوتا" النظر في نشأة إمبراطورية الصين، مستنداً إلى أدلة أركيولوجية تكشف عن إمبراطور ظالم أرغم 700 ألف سجين على بناء مدفن فخم، مما يقدم سرداً أكثر دقة من الروايات التقليدية.

- **الجانب الجمالي والهوس الإمبراطوري**: صنع السجناء جنوداً من الطين بدقة عالية، وصُمم سقف القبر ليشبه سماء الليل، مما يعكس هوس الإمبراطور بالمجد والخلود، رغم أن استخدامه للزئبق أدى إلى وفاته.

- **التشكيك في الروايات المجيدة**: يشكك الوثائقي في الرواية المجيدة لتأسيس الصين، مشيراً إلى أن النصر كان نتيجة لمذبحة بين الأمراء، ويبرز دور القهر السياسي في تحقيق الوحدة.

 

نبشَت "نتفليكس" قبر الزعيم المؤسّس لإمبراطورية الشمس، لتُشكّك في الرواية الرسمية المجيدة والواضحة والمكرّرة لنشأة إمبراطورية الصين، في "أسرار محاربي تيراكوتا (Mysteries Of The Terracotta Warriors)" (وثائقي، 2024) لجيمس توفل.

تعيد الأركيولوجيا كتابة التاريخ الصيني بالوثائق المدفونة، وبالطين المطهوّ وعظام المقبرة. يروي الطين والخشب والفحم والبرونز والعظام سيرة إمبراطور ظالم، أرغم 700 ألف سجين على بناء مدفن فخم يُخلّده. كلفة الدفن أعلى من كلفة الحياة، كما كلفة بناء الأهرامات. يروي الطين والعظام وقائع فجر التاريخ، كما في "أسرار مقبرة سقارة (Secrets Of The Saqqara Tomb)" (وثائقي، 2020) للمخرج نفسه. ما تكشفه المقابر عن الشعوب أوثق مما يرويه المؤرّخون.

صنع السجناء الكادحون مجداً عسكرياً بحرس إمبراطوري منحوت بالطين المطهو. نُحت الجنود بدلاً من رسمهم. يمثّل النحت تجسيماً للجانب الجمالي لمشهد البلاط بعد الموت. نُحت الجنود بمحاكاة تبلغ حدّ التطابق. النحت نقيض المُسطّح. صُمِّم سقف القبر الواسع ليشبه سماء الليل. بذلك، تمّ تجسيم الهوس الإمبراطوري بالمجد.

لضمان الخلود، أكْثرَ الإمبراطور من استخدام الزئبق، فقتله. لسخرية التاريخ، مات بعيداً عن قبره الجاهز، فنُقلت جثته وسط السمك المتعفّن لإخفاء رائحة الجسم المتحلّل. أذلّه الموت، كما أذلّ قارون الذي يُروى أنّه تخفّى في جوف حصان ميت كي لا يُدركه الموت، فأدركه، وانتشرت رائحة الحكاية.

تراجع الخوف من الموت في العصر الحديث، بفضل الطبّ وتحسُّن التغذية. لذا، لا يهتمّ أحدٌ بمراسم دفن جاره. غلب حبّ الحياة على الخوف من الموت، فتراجع تأثير الكهنة، وكثر تجّار المتع والتسلية. لكنْ، لآلاف السنين، كان للموت ومراسم الدفن قيمة كبيرة في الثقافات. يظهر ذلك في "كتاب الموتى" الفرعوني، و"مسامرات الأموات" الإغريقي، و"أهوال القبور" العربية.

تعيد الأركيولوجيا كتابة التاريخ الصيني بناء على لُقى حقيقية. وجد علماء الآثار في الطين والخشب والبرونز والعظام أدلّة موثوق بها لسرد ما جرى وتفسيره. يكشف البحث أنّ عظام الموتى لا تكذب كما يكذب المؤرّخون. يكشف نقص الكالسيوم حقيقة عظام الكادحين. في الأبحاث الأركيولوجية، التي تستعين بالتكنولوجيا الطبية، مات الخدم في سنّ الـ30، ومات الأسياد بعد الـ60.

يفيد منهج البحث الجنائي في كشف الأدلّة الميدانية، كما في فيلم بوليسي. العظم وثيقة صادقة تُخبر، بفضل كيمياء الكاربون المُشعّ، عن عُمري الخادم والإمبراطور وشكل العمود الفقري لهما: أمستقيمٌ أمْ مُقوّس، مع فرط طول زمن الانحناء للكدح. يرقد الموتى إلى جانب الأواني. لذا، تأتي الحقائق من المقتنيات الأثرية في المدافن. يعكس التنقيب الأركيولوجي هوس الشعوب بمعرفة ماضيها بالأدلّة العلمية، لأنّ الشكّ وحرب الايديولوجيات دمّر مصداقية الروايات الطهرانية المُؤسِّسة. كُتبت روايات التأسيس السياسي، وحتى الديني، متأخّرةً. إذاً، إنّها انتقائية ومؤدلجة.

 

 

تضع نظريةُ المعرفة التاريخَ في مختبر، وتستخدم منهجاً تجريبياً، وتفحص العظام لمعرفة نوع التغذية ونواقصها. يُشرَّح الماضي لفهم الحاضر. يصير الماضي المنتهي مصدر فخر أو عار.

هذا الوثائقي يخدش سيرة العاهل المؤسِّس. سابقاً، قدّمت "نتفليكس" صورة مريعة لنظام الحكم الامبراطوري الصيني، في مسلسل "ماركو بولو المسافر" (2014 ـ 2016، لا يزال في المنصّة) لأسبن ساندبرغ. حُوِّل الماضي إلى مصدر تشويق. ماضٍ بشع، إذاً حاضر صيني بشع، كما في "الإمبراطور الأخير" (1987) لبرناردو برتولوتشي.

شرب الإمبراطور الزئبق ليُخلَّد، بحسب "مختصر تاريخ الأركيولوجيا" لبراين فيغن (ترجمة أحمد الزبيدي، "دار الكتب العلمية"، الطبعة الأولى، 2019، ص 350). استهلك مادة الخلود بحسب فهمه، فقتلته. بعدها، صار عظيماً بالنسبة إلى من عثروا على بقايا قبره. كشف البحث الأركيولوجي دليل العظمة الطيني. الدليل الأدبي لتنظير عظمة الحروب الصينية كتاب "فن الحرب" لصَنْ تزو.

تعيد الأركيولوجيا كتابة تاريخ البشرية بالمجرفة لا بالقلم، وتعيد النظر في ادّعاءات كثيرة سائدة، أخطرها المركزية الحضارية الغربية. تتشابه روايات تأسيس الدول في تمجيد البطل المؤسِّس. لكلّ تأسيس رواية مجيدة، وروايات دموية يطمسها المؤرّخون الرسميون. تعزّز الرواية الذهبية المجيدة الولاء والوطنية وانسجام الشعب.

يُشكِّك الوثائقي الجديد برواية التأسيس الصينية المجيدة. ما سُمّي نصراً مجيداً، كان ثمرة مذبحة رهيبة بين الأمراء الأشقاء. السيف مؤسِّس الدولة.

ماذا تقول مملكة الموتى الصينية عن البلد؟

وحدها الممالك المحارِبة تصمد. إنّها تُرغم السجناء والعبيد على العمل ("الحروب تخلق الرئيس والملك والدولة"، "قصة الحضارة"، ويل وابريل ديورانت، ص 41). شعار الزعيم: أشغل الجماهير قبل أنْ تُشغلك. اكتُشف سرّ الضريح عام 1974، تزامناً مع "الثورة الثقافية" (ماو تسي تونغ)، التي أرغمت مثقفي المدن ونخبها على العودة إلى الحقول، وعلى الكدح والموت، لتهتف له الشبيبة بالخلود.

هل يشبه الحاضر الماضي شبه الماء بالماء؟

لتخمين حجم القهر الذي تطلّبه نحت الحرس الطيني، كان هناك 700 ألف سجين يكدحون لبناء قبر الإمبراطور. بالغ جلالته في الأحكام لإرغام الشعب على الحفر. يُستحسن أنْ يكون السجناء فنانين في نحت الطين. لم يحفر العمّال بسعادة، وبقراءة وقائع سياسية. وحدها الممالك المحاربة تصمد، والأنبياء المسلحون ينتصرون. نظراً إلى ما فعله زعيم الصين تونغ بالجماهير، وزعيم "الخمير الحمر" بول بوت في كمبوديا، وغاندي بالهنود، يبدو أنّ قادة الشعوب ذات الكثافة العالية يبتكرون حِيَلاً لشَغل الجماهير وتوظيفها بكثافة.

فنّ الحرب عنفٌ وإكراه. لا تكدح الجماهير إلاّ مُرغمة. لا عزاء للسياسيين الرومانسيين. لولا هذا القهر السياسي، الذي يضمن الخضوع، لما كانت الصين الآن دولة موحَّدة في 10 ملايين كلم مربع، بينما في أوروبا هناك 50 دولة تتنازع في المساحة نفسها.

المساهمون