بعيداً عن حرارة مُرتفعة في طقس بيروت، ورطوبتها القاتلة، تقترح المنصّة اللبنانية "أفلامنا" عناوين سينمائية عربية مختلفة، تُروى وقائعها في فصل الصيف. البرنامج (صيف حار) يتضمّن أفلاماً مُنتجة في فتراتٍ عدّة سابقة، وأحداثها تحصل في أزمنةٍ وحالاتٍ، ترتبط بالسياسي والاجتماعي، وتستعيد تاريخاً ماضياً، وتتجوّل في نفوسٍ وحكاياتٍ. الاقتراح السينمائيّ دعوة إلى مُشاهدةٍ جديدة، تنبثق من واقعٍ عربيّ مرتبكٍ وقاهِرٍ، ومن عيشٍ لبنانيّ غارقٍ في المهانة والفساد والنهب. اقتراحٌ يقول إنّ لجوءاً إلى السينما، وإنْ يكنْ مؤقّتاً، قابلٌ لهدوء بسيطٍ، يحتاج إليه كثيرون في غليان اللحظة، وتوتّر اليوميّ.
اختيار 3 أفلامٍ من البرنامج الجديد، الذي ينتهي في الأول من أغسطس/ آب 2021، ينبثق من ميلٍ ذاتيّ إلى معالم وصُور وتفاصيل، تأتي مجدّداً من تواريخ وقراءات واشتغالاتٍ، مانحةً المهتمّ شيئاً إضافياً من تأمّلٍ في أحوالٍ تُنتج خراباً، وتوثِّق وقائع، وتسرد قصص حبٍّ وتمرّدٍ وانقلاباتٍ وعلاقاتٍ وانفعالاتٍ. اختيار منبثق من رغبةٍ في إعادة مُشاهدةٍ، لعلّها (الإعادة كما المُشاهدة) تُحصِّن صاحبها، ولو قليلاً، من وفرة الألم والتمزّق، رغم أنّ في الأفلام المختارة ألماً يُعانيه أفرادٌ، يجدون أنفسهم في لحظة تبدّل، أو في متاهة بحثٍ مُتعِب عن إجابات أو منفذ؛ وتمزّقات تُصيب شخصياتها بحَرْقة وتوهان.
"سرقات صيفية" (1988) للمصري يُسري نصرالله (1952)، و"معارك حبّ" (2004) للّبنانية الفرنسية دانيال عربيد (1970)، و"فلافل" (2006) للّبناني ميشال كمّون (1969). الأول (يُعرض لغاية 18 يوليو/ تموز 2021) يعود إلى مطلع ستينيات القرن الـ20، لالتقاط لحظة تحوّل في سيرة عائلة بورجوازية، يمضي أفرادها فصل صيفٍ حار في الريف، ويواجهون تحدّيات تفرض على كلّ واحد منهم خيارات وتجارب. الثاني (بين 19 و25 يوليو/ تموز 2021) يختار مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982)، ليروي حكاية عائلةٍ مسيحية مارونية، مُقيمة في إحدى "المناطق الشرقية"، تعاني آثار حربٍ معلّقة، وتمزّقاً داخلياً بين أفرادها، وإنْ يكن صامتاً. الثالث (بدءاً من 26 يوليو/ تموز 2021) غير مُتحرّر كلّياً من سطوة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، رغم أنّ الليلة الوحيدة (زمن أحداثه) حاصلةٌ بعد 15 عاماً على نهايتها الهشّة.
مع يُسري نصرالله، عالمٌ يتّسع لأسئلةٍ وتفاصيل تُروى في مسالك أفرادٍ، وأنماط تفكيرهم، ونبرات أصواتهم. "ثورة 23 يوليو" (1952) حاضرةٌ، واشتغالات ضبّاطها فاعلةٌ في مفاصل الحياة والعلاقات والاقتصاد والعيش. لكنّ الأسئلة غير محصورةٍ في السياسة والاقتصاد والاجتماع، رغم أنّ العائلة تعاني ثقل قرارات التأميم، لأنّها (الأسئلة) تنبثق من أحوالٍ يعيشها أناسٌ مختلفو المشاعر والرغبات، وبعضهم في أعمارٍ صغيرة، يكتشفون عوالم وحيوات ومعاني، وإنْ يصعب حسمها وفهمها كاملاً.
المراهقة أساسيّة في "معارك حبّ"، فالحكاية مروية بعينيّ لينا (مريان فغالي)، ذات الأعوام الـ12، بعيشها المُثقل بتساؤلات وتمنّيات وأوهامٍ، وبعنف أبٍ (عوني قوّاص) متأتٍ من إدمانه على القمار، وبما يُشبه تمزّقاتٍ وتفكيكاً في عائلةٍ تعيش إحدى اللحظات الأقسى والأسوأ، بسبب انتقالٍ واهمٍ من حالة حربٍ إلى سلامٍ مرغوبٍ فيه لكنّه معطّل، إذْ يشهد عام 1983 (زمن أحداث الفيلم) "خروجاً" غير واضح من وحشية الغزو الإسرائيلي لبيروت، و"دخولاً" لبنانياً ـ مُحطّماً وناقصاً ـ في هدوءٍ، يظنّه كثيرون دائماً.
عائلتان ولحظتان مرتبكتان، وأسئلة غير منتهية، وإجاباتٍ معلّقة، وحالات موغلة في اكتشافات وبحث عن مخارج أو عن إشباعٍ لرغبات. فيلما نصرالله وعربيد يتشابهان في مساحةٍ صغيرةٍ، تمتلك قدرتها على إشعال غليانٍ في ذات وروح وعقل، لكشف بعض المخبّأ في نفوس وعلاقات. العائلة تحضر في "فلافل" أيضاً، رغم أنّ الأبرز فيه مرتبطٌ بتوفيق (إيلي متري)، الشاب المتجوّل في مدينةٍ غارقةٍ في اضطراباتها وعجزها عن حسم المُعلَّق في ذاكرتها وراهنها وعلاقتها بناسها. ليلة طويلة، تعكس ـ عبر تلك الجولة المحفوفة بمخاطر وتحدّيات ومخاوف وبحثٍ (هنا أيضاً) عن حبّ ومشاعر ـ شيئاً كثيراً من خراب مدينة، وحُطام أناسٍ وانكسار غرامٍ.
العائلة والحبّ والاكتشاف، وإنْ يكن الأخير ناقصاً لقسوة أسئلته ومتاهات طارحيها، تُصبح مشتركاتٍ بين 3 أفلامٍ تقول، تلميحاً ومواربة، إنّ في اللحظة المروية، بكلّ ما فيها من نبضٍ وغليانٍ وتجارب، ما يؤسِّس لخرابٍ مستمرّ في المقبل من الأيام. في تعريف المنصّة به، يُذكَر أنّ "فلافل" يظهر، بعد 15 عاماً على إطلاقه، "بمثابة نبوءة". يُضيف التعريف أنّ "القنبلة الموقوتة" التي يُلمِّح الفيلم إليها، "نتيجة سنوات من الفساد على يد المافيا الحاكمة"، ستنفجر في 4 أغسطس/ آب 2020، في مرفأ بيروت، مُنهيةً "الكذبة الكبرى"، أي "السلام في لبنان". المُباشر في التعريف يُناقَش، لكنّ الاضطراب والغليان والفوضى والأفق المعطوب، الظاهرة في شخصيات "فلافل" وسرده ومناخه وهوامشه، تقول إنّ خراباً آتٍ لا محالة، وإنّ الخراب هذا سيؤدّي إلى انقلاباتٍ عنيفة، تُلغي أشياء كثيرة في البلد وناسه.
أسئلة "فلافل" لن تكون أقلّ حدّة من تلك المطروحة في "سرقات صيفية" و"معارك حبّ". هناك ما يُشبه عدم وضوحٍ في أفقٍ مبتور، أو عدم خروجٍ آمنٍ من حُطامٍ وانقلاباتٍ وتمزّقاتٍ، أو عدم سكينةٍ في الاكتشافات والتنقيب. هذا جزءٌ من قولٍ، فالأفلام الـ3 (الأولى لمخرجيها) مُثيرةٌ لمزيدٍ من التساؤلات، خصوصاً أنّها معروضة في لحظةٍ عصيّة على خلاصٍ مطلوبٍ.